على الحاجز المقابل لمنزلنا
الإثنين الرابع من تموز/يوليو 2011، لا أنسى ذلك اليوم ما حييت. كان يوماً أسوداً في حياتي وفي تاريخ مدينتي كفرنبل.
كنت وأمي نستعد لزيارة جدي المريض، وإذ بصراخ وضوضاء يعمّان شوارع المدينة. أصاب السكان حالة من الذعر. تعالى صراخهم ووصل إلى مسمعي صوت أحدهم يقول: “وصل الجيش إلى مشارف المدينة”.
هرعنا أنا وأهلي إلى داخل المنزل. جلسنا بجوار بعضنا البعض في زاوية الغرفة، والخوف يملأ قلوبنا! أخذت القذائف تتساقط في كل مكان وتصدر أصواتاً مرعبة. لأول مرة كنت أسمع هكذا أصوات. بدأت أرتجف من شدة الخوف! أذكر حينها، أنّ أمي لشدة الخوف الذي تملكها أيضاً، بدأت بالدعاء: “ربي ارعبهم كما يرعبوننا”. لكنّ أبي بكل رباطة جأش وثبات، قال لها: “لا تخافي لنا الله. وإن كان جنود النظام متكلين على سلاحهم، نحن متوكلون على الله فقط”.
تقدّم الجيش إلى داخل المدينة، وبدأ بنشر حواجزه فيها، مع إطلاق رصاص كثيف استمر من الصباح إلى ما بعد الظهيرة. تمركزت قوات الجيش في وسط ومداخل المدينة بالكامل. فرضت الدخول والخروج إلى كفرنبل، من خلال المرور على الحواجز.
كان أكبر حواجز النظام في المدينة يقع في الجهة المقابلة لمنزلنا المؤلّف من طبقتين، وكنت وأهلي نقطن في الطابق العلوي. نغّص علينا هذا الحاجز حياتنا. فكنا لا نجرؤ على الخروج من المنزل إلّا للضرورة القصوى.
وحين يحلّ المساء، نمضي ليلتنا دون إنارة. ويتكرر المشهد كل ليلة، لأن الجنود في الحاجز المقابل لمنزلنا، كانوا يقومون بإطلاق الرصاص على كل ضوء يُنار ليلاً بالقرب منهم!
بالرغم من أنَّ الأمر طالَ كل سكان المدينة، إلّا أننا كنّا نحسد من يقيم بعيداً عن حواجز النظام. فهو على الأقل، يستطيع أن ينير منزله مساءً دون خوف.
تمدد الحاجز المقابل لمنزلنا إلى معمل السجاد اليدوي، فسيطرَ عليه. وقطع الحاجز برزق العاملين في المعمل. أذكر أنهُ كان سجاداً جميلاً يُصنع بإتقان وجودة عالية ويُباع بثمن رخيص ليتمكن جميع الأهالي من اقتنائه. وسيطر جنود الحاجز على ثانوية (ذي قار) ما حرم الطلاب من مدرستهم. كانت ثانوية ذي قار هي الثانوية الوحيدة في المدينة، التي تستقطب طلاب مدينة كفرنبل والقرى المجاورة لإكمال دراستهم. وخرّجت العديد من الطلاب الذين صاروا أطباءً ومهندسين ومدرّسين… لكن مع دخول النظام، انتهى بها المطاف إلى ثكنة عسكرية! فور تمركز جنود النظام في المدينة، قاموا بحملات تفتيش مسلحة للمنازل بأكملها، من أجل التأكد من خلو المدينة من السلاح.
لا زلت أذكر جيداً ذلك اليوم الذي دخل فيه الجنود لتفتيش منزلنا. دون إذنٍ اقتحموا المنزل، وكأنهم وحوش ضارية. ثمَّ عاثوا فساداً بالمنزل وبعثروا جميع محتوياته، حتى محفظتي الصغيرة لم تسلم منهم!
انتهى الجيش من حملاته، واطمانَّ إلى أن أبناء المدينة ليس بحوزتهم أي أسلحة ولا يستطيعون القيام بأي مقاومة… فبدأ بمضايقة الأهالي! كان الجنود حين يشعرون بالملل، يتسلّون بإطلاق نيران مدافعهم ورصاص بنادقهم، لقذف الرعب في قلوب السكّان العزَّل! يُشعرهم ذلك بالسعادة والفرح!
دفعهم حقدهم أيضاً للتجوال بالدبابات في شوارع المدينة، فكانوا يعتقلون أي شاب يصادفونه في طريقهم! لذا كان يتوارى الشباب عن أنظارهم هرباً منهم! كانوا يقتادون الشباب الذين يمسكون بهم إلى داخل معمل السجاد. كنت أراهم من نافذة صغيرة في منزلنا تطل على ذلك الحاجز! كانت أصوات المعتقلين تصل إلى داخل منزلنا ليلاً أحياناً في ساعات النهار لشدة التعذيب!
ولم يكتف النظام بكل هذا الإجرام! بل عمدَ إلى قطع سبل العيش للسكان، عبر حرق المحال التجارية في السوق الرئيسي للمدينة. وإن تجرأ أحدٌ من أصحاب المحال، وحاول اختلاس النظر إلى الجنود وهم يحرقون محله! كانوا يعتقلونه ويسوقونه إلى مقرهم، ليتذوق كافة أشكال التعذيب.
لا زلنا نعيش مسلسل الرعب اليومي لهذا النظام. حلقات مسلسل رعب نأمل أن تنتهي بزواله.
خولة المحمد )40 عاماً) كانت تعمل كمدرّسة قبل الثورة وهي حاليا تعمل في راديو فرش في كفرنبل حيث تعيش مع والدها في منزل صغير.