سعياً للتأقلم مع المكان الجديد وسكانه

لوحة طرقية عن حملة "الخضرا للكل"

أسير في شوارع هذه المدينة الجديدة علي كلياً. أتلفّت حولي علّني أجد وجوه من أعرفهم، تلك البيوت والأماكن التي فارقتها، أو على الأقل تشبهها.

على الرغم من أنني من معرة النعمان، التي تبعد فقط ما يقارب 45 كيلومترا عن مدينة إدلب، إلّا أنني لم أزر إدلب قبل نزوحنا اليها في بداية شهر كانون الاول/ديسمبر من العام 2019. 

لم أتخيّل قط أنّني سأترك معرة النعمان. صمدنا أنا وزوجي وأطفالي رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها المدينة. في كل مرة كنا نرفض الخروج من المعرة. وننجو وتنجو المعرة. هذه المرة كان الوضع مختلفاً. 

كل الأحداث تقول أن النظام سيسيطر على المعرة. وأفضل التحليلات السياسية وأكثرها تفاؤلا تقول أن النظام سيدخل المدينة. وثم بعد ذلك ستصبح تحت السيطرة الروسية كما حدث في درعا. والنتيجة واحدة سننزح من المدينة. 

تندرج تحت كلمة نزوح سلسلة لامتناهية من تفاصيل آلام نفسية وجسدية لاحصر لها. ابتداءً بإجبارك على ترك بيتك ومدينتك مكرهاً وليس انتهاء بترك ذكريات عمر كامل خلفك. لكن أكثر الآلام إلحاحا إيجاد مكان تنزح اليه في زحمة النزوح هذه، وتجمع ما يقارب الثلاثة ملايين نسمة في بقعة جغرافية صغيرة.

بعد رحلة طويلة من الشقاء والمبيت في خيمة ثم دكان، استطاع زوجي إيجاد بيت صغير في مدينة إدلب بسعر نستطيع تحمله. البيوت في الأماكن الأكثر أمنا في مناطق درع الفرات أصبحت ضرباً من الخيال إيجادها. وإن وجدت فبأسعار خيالية لا نحتمل ذكرها فكيف بدفعها؟! 

ولأن إدلب المدينة أصبحت الآن في مرمى نيران النظام، وبعض اهلها ينزحون أيضا فالاسعار فيها مقبولة إلى حد ما. 

الآن رسمياً اصبحنا نازحين. صرت أسأل نفسي هل كنت اخشى فعلا ترك المعرة أم أن خوفي من وصف نازح كان أكبر حيث أنّني ولسنوات عديدة كنت أرى النازحين يأتون إلى معرة النعمان، يخوضون رحلة التيه نفسها غربة وكربة. 

الجزء الأصعب هو أن تتأقلم في المكان الجديد، ومع المجتمع المضيف والمزيج الكبير من النازحين الذين قدموا من كل المحافظات السورية. ابتداءً من حمص وليس انتهاءً بنا. حاولت منذ لحظة وصولي الأولى الى إدلب الاندماج في المجتمع الجديد، لأنني إذا استسلمت ليأسي وحزني فإن هذا سينعكس سلباً على عائلتي التي هي اعظم ما أملك.

بعد ما يقارب الشهر من كفاح مع الحياة الجديدة، تعرفت إلى سيدتين. أم فيصل (41 عاماً) من مدينة إدلب، هي جارتي في المنزل الجديد. أمّا ضحى (23 عاماً) من الغوطة الشرقية فهي تسكن في البناء المقابل لنا مع عائلتها وعائلة عمها.

خلال جلساتنا الاسبوعية أنا وضحى وأم فيصل، تحدثنا كثيراً عن ذكرياتنا وأشواقنا لمدننا واملنا بالعودة. تحدثنا عن عاداتنا وطقوس العيد ورمضان. عن أشهر المأكولات والحلويات وعن اختلاف طرق تحضيرها. 

كنت أفكّر كم هو مهم هذا النوع من الاندماج من خلال تشارك التجارب الانسانية بين هذا الخليط الكبير المتعب الذي تضمه مدينة إدلب. 

بعد ما يقارب الشهر والنصف من تواجدي في مدينة إدلب أخبرتنا ضحى أثناء شربنا القهوة في منزلي، أن إحدى الفرق التطوعية في مدينة إدلب وتحمل إسم  تارغت، يقوم أفرادها بتوزيع منشورات عن حملتهم الجديدة في إدلب بعنوان “الخضرا للكل”. وأحضرت ضحى منشورين لي ولأم فيصل لأن الحملة تمثلنا بكل تفاصيلها. 

كانت العبارات المكتوبة على المنشور معبّرة وصادقة، لامست أعماقنا، مثل “اتفضل ع بيتك” و “مابيحن ع العود غير قشره” و “بيت الضيق بيساع ألف صديق”. والعبارة الأجمل بالنسبة لي كانت “خلينا نفتح قلوبنا قبل بيوتنا”. 

قررنا أنا وجارتيّ أن نشارك بالحملة التي تهدف إلى الدعوة لزيادة التعايش وتعزيز التبادل الثقافي والقبول بين النازحين والمهجرين وبين المجتمع المضيف في مدينة ادلب والريف المجاور لها. 

وبالفعل ذهبنا إلى مركز فريق “تارغت” وتحدثنا مع فريق الحملة وأخبرونا أن فكرة الحملة جاءت لردم الفجوة الحاصلة بين النازحين والمهجرين وبين المجتمع المضيف، وأحيانا بين النازحين والمهجرين أيضا. وان تسليط الضوء على عادات كل مجتمع والتجارب الإنسانية في النزوح من شأنها أن تخفف الحساسية وتصحح المفاهيم المغلوطة عند كل طرف تجاه الطرف الاخر. 

ملأنا الاستبيان الأولي للمشاركة في الحملة. واطّلعنا على تفاصيل الأنشطة من السيد عبود العثمان منسق الحملة، وهي جلسات حوارية تضم نازخين ونازحات ومهجرين ومهجرات، وسكان محليين وهدفها كسر الصورة النمطية الموجودة في ذهن كل طرف عن الأطراف الأخرى ولقاءات ثقافية تهدف الى تسليط الضوء على الموروث الثقافي لكل منطقة للتذكير بالمزيج الاجتماعي الذي اعتدنا عليه كسوريين بغض النظر عن المنطقة التي قدمنا منها. 

إلى جانب ذلك رسم جداريات تدعو للتعايش والسلم الأهلي في مدينة إدلب لاستهداف أكبر عدد من الناس بالإضافة إلى تعليق لافتات في مكاتب المنظمات العاملة في إدلب والأماكن العامة. 

بالفعل حضرنا أنا وجارتي جلسة حوار تحدثنا فيها عن المشاكل التي تواجه كل طرف. وقامت ميسرة الجلسات بتقريب وجهات النظر بين المشاركات. وخلال اللقاء الثقافي تعرّفنا على العادات الثقافية لمدينة إدلب وريفها والغوطة الشرقية. 

مشاركتي في أنشطة حملة “الخضرا للكل” ساعدتني كثيراً على تقبّل حياتي الجديدة التي ستبقى تواجهني فيها بعض المصاعب بسبب الظروف المادية والأمنية. لكنني أصبحت الآن أكثر تقبّلا لفكرة تشارك هذه البقعة الجغرافية مع هذا المزيج الكبير المختلف، الذي يحمل داخله أوجاع النزوح والفقد والحرب. وأن التاقلم مع المكان الجديد وسكانه يجب ألّا يكون وجعاً إضافياً يثقل كاهله.