رمضان دمشق بطعم الحنين
ازدحام شوارع ساحة عرنوس في حي الصالحية في دمشق بعد الإفطار تصوير كرم منصور
"أم رشدي (53 عاماً) نزحت من الريف الدمشقي إلى العاصمة منذ عام 2012. لا تزال تحن إلى طقوس رمضان في بلدتها عربين. ولا زالت عالقة في بال أم رشدي طقوس رمضان، من المسحراتي إلى صوت آذان المغرب"
في قبوها الذي أصبح مسكنها الجديد في حي باب توما، تجلس أم رشدي مع أبنائها الأربعة، بانتظار سماع آذان المغرب للبدء بالإفطار بعد نهار صيام طويل.
أم رشدي (53 عاماً) نزحت من الريف الدمشقي إلى العاصمة منذ عام 2012. لا تزال تحن إلى طقوس رمضان في بلدتها عربين. ولا زالت عالقة في بال أم رشدي طقوس رمضان، من المسحراتي إلى صوت آذان المغرب في جامع المدينة، الذي تحب طريقة آدائه، إلى موائد الأفطار.
أم رشدي تشعر بالحنين. رمضان هذا العام بالنسبة لها كما في الأعوام الثلاث الماضية يترافق دائماً مع الحنين، وأبرز ما يميز الشهر الفضيل الذكريات الجميلة التي اندثرت الآن.
تقول أم رشدي: “أعتقد ان جميع النازخين الصائمين يعانون موجات الحنين. هذه الموجات التي تبدأ عند الإفطار. الأشخاص الذين كنا نشاركهم الإفطار قد رحلوا تاركين الذكريات التي تحرق قلوبنا. إبني الذي هرب من الحرب يعيش في سويسرا. ووالده يقبع في أقبية النظام، رحلوا وبقي طيفهم يغذي الذاكرة بمرارة الاشتياق”.
وتختم أم رشدي كلامها: “كل شيء في رمضان تغير. نصوم ونمارس جميع الطقوس برفقة حنين لرمضان الحقيقي الذي لا يشبه هذه الأيام”.
رمضان بساعات صيامه الطويلة، وحنينه الجارف لذكريات الماضي ليس فقط ما يؤرق الصائمين في دمشق، بل أيضاً الضيق المعيشي الذي يزداد من عام لآخر.
تتميزأسواق دمشق هذا العام بالارتفاع الحاد في الأسعار. حيث تضاعفت أسعار معظم المواد الغذائية الأساسية. ووصل متوسط سعر الخضار إلى 6 دولارات للكيلو الواحد، بينما بقي راتب الموظف بحدود الـ 50 دولار أميركي.
عماد القادم من ريف حمص إلى العاصمة دمشق يقول: “في رمضان قبل النزوح، كانت أغلب السلع متوفرة، أما الآن نحضر الخضروات بكميات قليلة لا تسد رمقنا وتستهلك مافي جيوبنا من أموال”.
ويختم عماد كلامه: “رمضان الخير قد ولّى الآن نحنا في رمضان المحنة. أعاننا الله على هذه الأيام العصيبة”.
تعاني الأسرة السورية اليوم من التشتت، وافتقاد اجتماع أفرادها على مائدة الأفطار في رمضان. هذا الوضع دفع ببعض السوريين إلى الاستعانة بلتكنولوجيا لتخطيه.
العوائل السورية باتت تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لجمع شمل الأسرة بعدما بعدتهم المسافة.
رغد (23 عاماً) من سكان دمشق. أجبرت الحرب إخوتها على اللجوء إلى لبنان والأردن. تقول رغد: “كان أفراد أسرتنا يجتمعون على مائدة الافطار. الآن نجتمع ولكن عبر السكايب (تطبيق للتخابر الصوتي عبر الأنترنت) لقد حلت وسائل التكنولوجيا المشكلة بعدما تعذر الاجتماع بشكل مباشر”.
وتشرح رغد طقوس الإفطار حديثاُ: “عند الإفطار يجلس إخوتي في كل من الأردن ولبنان امام شاشات هواتفهم الجوالة يتناولون إفطارهم، ونحن كذلك. نراهم ويروننا، نستمع لإحاديثهم وهم كذلك، وقد تمتد السهرة إلى ما بعد الإفطار بساعات”.
وتلفت رعد كيف تبدلت العادات نتيجة الحرب وبفضل الأنترنت. وتقول: “لم نعد نتقاسم تحضير أطباق الفطور، مثلما كنا نعمل في رمضان. الآن نتبادل صور الموائد ونرسلها إلى بعض، وفي أحسن الأحول نتبادل طريقة تحضيرها لا أكثر. صلاة الجماعة والسماع للأدعية الدينية اختفت أيضاً. أصبحنا نتبادل الدعاء والأحاديث النبوية والآيات عبر تطبيق الواتساب لا أكثر”.
رغم كل ما حصل وتغير، ورغم تغيير السوريين لبيوتهم وجيرانهم، بقي ما يعرف بإسم “سكبة الإفطار”، والمقصود بها المأكولات التي يتبادلها الجيران بين بعضهم عند الإفطار. جورجيت وهي إحدى الدمشقيات التي تقطن في حي باب توما ذي الغالبية المسيحية تقول: “في أول يوم من أيام رمضان طرق الباب عند الساعة السابعة والنصف مساء، جارتي القادمة من دير الزور أحضرت لنا سكبة الإفطار، وسيكون جزءاً من العشاء الليلة”.
تتابع جورجيت ضاحكة “دائما يقوم جيراننا بتبادل الأطباق فيما بينهم، ودائماً يكون لي حصة برغم من أنني لا أصوم رمضان. وحتى النازحين إلى الحي يوزعون علينا أطباقهم، لعلهم يتذكرون فينا جيرانهم في أحياءئهم التي غادروها، فدائما ما يتذكرون طقوس رمضان مع جيرانهم وعيونهم مليئة بالدموع”.
معاناة النازحين في دمشق خلال شهر رمضان، قابلتها بعض الجمعيات الخيرية والإغاثية بعدد من الأنشطة، كإعداد بعض الجمعيات فطور جماعي للنازحين المسجلين على قوائمها.
جورج (32 عاماً) هو منسق الأنشطة في الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين، يقول: “مع حلول شهر رمضان كانت الهيئة اليسوعية تسعى للقيام بعدد من الأنشطة الرمضانية خدمة للنازحين المسجلين على قوائمها. وتم إعداد إفطار جماعي في مركز الهيئة، إضافة إلى فطور للأطفال مع جميع أفراد عائلاتهم. وتبدأ الأنشطة الرمضانية بسماع آيات للقران الكريم ، بعدها يتم الافطار بالماء والتمر (وفق السنة النبوية) ومن ثم باقي المأكولات، بعد الإفطار يتم القيام بعدد من النشاطات والأشغال اليدوية”.
يضيف جورج: “في السنوات الماضية كنا نقوم بتوزيع بعض المواد الغذائية، إلا أننا هذا العام فضّلنا أن نقوم بالطبخ داخل مراكز الهيئة وإطعام المستفيدين بوجود أجواء رمضانية. هي رسالة محبة لجميع الطوائف ألأخرى في بلد تنهشه الحرب والعنف، والسبب الآخر دمج الوافدين مع بعضهم، وخصوصاً أن هنالك نشاطات وأعمال تعزز التواصل بينهم. فجميع من هنا يعانون من شيء من الغربة بعدما اقتلعوا من ديارهم، ويحسون بالحنين وخصوصاً لشعائر رمضان التي عملنا على توفيرها لهم ولو بجزء بسيط”.
على صعيد آخر بالنسبة للشباب السوري يبدو الاهتمام منصبّا على سوق الانتاج الدرامي التلفزيوني. فلقد الجرت العادة أن يتم عرض المسلسلات العربية في شهر رمضان كون الأسرة غالبا ما تجتمع لفترات طويلة مساء في المنزل الرمضانية.
نور (26 عاماً) يحمل شهادة دراسات عليا في النقد المسرحي يقول: “هذا العام لم يكن الموسم الدرامي كما يتمناه السوريون، فمعظم الأعمال كانت عبارة عن نسخ مكررة عن السنوات السابقة دون تجديد. وفي كثير من الأحيان فيها تراجع من حيث المستوى والمضمون.
ويضيف نور: “في حين ابتعدت المسلسلات عن محاكاة الواقع، في أحسن الأحوال قامت بنقله بشكل مسيس يبرز وجهة النظر السياسية بشكل واضح. وبدل ان تنقل الواقع بصدق أو تكتفي بالحياد شكلت جزءاً من البربوغندا التي يبثها النظام، لذلك فقدت مصداقيتها هذا العام عند المشاهد الرمضاني الذي فضل وسائل التواصل الاجتماعي على متابعة الأعمال الدرامية على التلفاز”.
بدا واضحاً لدى سؤال الناس عن رمضان هذا العام الإجماع على التمسك بالشعائر الدينية للشهر الفضيل، مع ملاحظاتهم أن الظروف هذا العام جعلت من رمضان أقسى من السنوات الماضية، فهو الآن رمضان الخوف والموت بسبب القصف والدمار الذي يطال معظم البقاع السورية، رمضان الحصار الذي يعيشه العديد من السورين المحتجرين داخل مناطقهم، والجميع يتمنى أن يكون رمضان العام المقبل أكثر يسراً على السوريين مثلما اعتادوا عليه.