رحلت بعد اعتقال صديقتي الحامل
طفل يجر عربة صغيرة لتهبئة مياه لشرب
في منتصف شهر أوكتوبر/تشرين الاول عام ٢٠١٥، رأيتها بمحض الصدفة في مكان مزدحمٍ جداً في حي المهاجرين في دمشق.
كان قد مضى وقت طويل دون ان نلتقي حينها توقفنا وبدأت كل واحدة ٍ منا تسأل الاخرى عن جديدها. كانت مرهقة نتيجة حملها، يدها حانية على بطنها لتقي الجنين نعرات المارة. كنا نعمل سويا في مساعدة أيتام وضحايا الحرب، ولكنها توقفت عن العمل مع اقتراب موعد الإنجاب.
أذكر جيداً كيف كانت الأوضاع حينها. الفوضى العارمة والاعتقالات العشوائية، في محاولة من السلطات الأمنية لإخماد روح الثورة والأمل في قلوب المناصرين لها.
مضى ذاك اليوم وتاليه، وإذا بخبر مفاجئ. تم اعتقالها وهي التي لم تكن نشطة آنذاك. لكن لا فائدة قد انتهى الامر، نشطة كانت أم لم تكن. سألنا الله لها ولجنينها الحماية والحفظ من كل سوء قد يلم هناك في فروع الظلم.
تبين في ما بعد انها لم تكن الأولى في سلسلة الاعقالات. فقد اعتقلوا قبل نحو 6 أشهر شاباً نعرفه. تمكن محققو الفرع الأمني من الوصول الى أحد حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأوا الحديث مع أصدقائه واصطيادهم الواحد تلو الآخر.
مضت 9 ايام والمحاولات مستمرة لإطلاق سراحها. أخبارٌ تتسرب من الفرع ذاته تنبئ بأن أسماء أشخاص آخرين من زملائها في العمل على وشك التعميم والبحث عنهم.
كنت أظن أنني بمأمن حتى تلقيت اتصالاً من صديقة سألتني: “هل تستطيعين السفر؟”
أجبتها بأن ليس لدي ما يمنعني ولكني لا ارغب بذلك. لم يطل الوقت حتى تلقيت اتصالاً آخر أبلغوني فيه بأنه تم حجز سيارة لتقلّني مع صديقة أخرى إلى لبنان. وكان الاتصال حاسماً بأنني لم أعد بمأمن.
ذهبت إلى والدي ووالدتي وأنا ألملم نفسي. أخبرتهما بما حصل، وأن عليّ الخروج مرغمة. أذكر دموع أمي وكيف تلعثم والدي. كان علي أخبار المقربين من عائلتي وأصدقائي. لكن لا وقت يكفي لأفعل ذلك.
حضر بعض الأقارب لوداعي ومساعدتي في حزم الحقائب. إحدى صديقاتي اتصلت بعدد من الرفاق لرؤيتي قبل رحيلي. كانت لحظاتي الأخيرة في الشام بينهم. تلك الليلة لن تليها أُخرى لي في منزل العائلة. امضيت ساعات منها عين باكية والأخرى تحفظ كل ذكرى نقشتها على جدران وزوايا غرفتي.
في الصباح تذكرت صديقة لي بعمر امي كانت تحبّني وأحبها كثيراً. أخبرت من حولي اني نسيت شيئا مهماً، ركضت إلى منزلها وطرقت الباب عليها. فتحت والدهشة في عينيها فليس من عاداتي ان آتي اليها دون استئذان. عانقتها بشدة وفاضت دموعي. أخبرتها أنه يتوجب علي الرحيل فانهالت بالبكاء والوصايا.
عدت إلى المنزل وأبلغت السائق ورجوته ان يؤخر الانطلاق لساعات والحمدلله فعل. أبي توارى عن الأعين و نأى بنفسه عني. فهو لا يريد أن يرى حقائبي تحزم. حين رأيته وجدته مقهورا والدموع تحترق في عينيه. ضمني إليه وبكى وأبكى الحاضرين مردداً ” يارب أولادي … يارب أولادي …”
قبّلت جبين أمي وزوجة اخي المعتقل وأطفاله. أوصيتهم بأخي الصغير وغادرت وفي قلبي غصة.
قبل وصولنا إلى الحاجز الأمني، وكنت بصدد كسر بطاقة هاتفي خوفا من الملاحقة فإذا برسالة نصية تصلني. أحدهم يعتذر عن خطأ ارتكبه بحقي ودعوة بالتوفيق. المشاهد المحفوظة في ذاكرة الهاتف، صعب علي محيها، وحتى المرور عليها دون حزن. أزلت الصور من ذاكرة الهاتف ولكنها محفورة في ذاكرتي.
إنه يوم الرحيل. بالأمس كنت أكتب الشعر للمهاجر واليوم بت المهاجر نفسه.
عليا الرفاعي (28 عاماً) تحمل إجازة من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق. عملت في المكتب الإعلامي لتنسيقية حي برزة الدمشقي لفترة. غادرت سوريا بنهاية سنة 2015، مقيمة حاليا في بريطانيا.