خرج ليقدم الامتحان فانتهى معتقلا
مازال الحصار يشتد أكثر فأكثر على دوما. ها هي السنة الثالثة من الحصار. ضاقت بنا الدنيا بما فيها ولكن ما باليد حيلة. عانينا الأمرّين، وصلنا لمرحلة تمنّي الموت، وعدم الاستيقاظ كل صباح. لا نريد عيش المأساة نفسها كل يوم. غالباً ما نقول غداً سيكون أفضل ليخيب ظننا دائماً ويأتي الأسوأ.
توقفت الحياة عند الكثيرين، أو أنهم اتجهوا لأمور أخرى تنسيهم ان هناك من يعيش خارج هذا السجن الكبير. هناك من أكمل حياته وقام بأمور كثيرة لا يستطيع أن يحلم بها. كثير من الشباب من ترك دراسته وأهله ليلتحق بالجيش الحر، لأن ما كان يعيبهم ويمنعهم من إكمال حياتهم كباقي الشباب الذين يعيشون في هذا البلد، فقط أنهم دافعوا عن أنفسهم وأهلهم و حريتهم بالتعبير، فكانت الجبهات مفرهم الوحيد. أما من كان أصغر سناً فكبر بالثورة، لم يجد نتيجة لدراسته داخل الغوطة لعدم توفر خيار الجامعة والمستقبل المبهر الذي لطالما حلموا به. استغل النظام نقطة ضعف الشباب هذه، فتح باباً لخروجهم من الغوطة بحجة إتمام دراستهم ودخولهم الجامعة. تلك الخدعة لاستدراج الشباب إلى معتقلاته.
وهنا بدأ الصراع بين أخويّ التوأم، عماد كان مترددا حول الخروج من دوما ليقدم على شهادة البكالوريا، أما أخي إياد فكان يشعر بالحماسة، وعندما حاولنا إقناعه بأنها لعبة من النظام كان يصرّ على العكس. كان يريد فقط أن يؤمن مستقبلا جيداً لنفسه، ويكمل تعليمه بالجامعة التي كان يحلم بها منذ أن بدأ تحصيله في المرحلة الثانوية. كان يحلم أن يصبح طيارا أو مهندس ميكانيك. اقتنع والدي بكلامه بعد جدال طويل دام لأيام. قام باصطحابه هو وأخي إلى حاجز النازحين عند مدخل سجن الغوطة. ومن يخرج منه يكون كمن أخذ حريته. وقفوا هناك بعيداً عن حاجز الأمن ولكن أبي لم يستطع تسليم فلذة كبده لذلك الوحش الغادر المسمى النظام. تجادلا كثيرا أبي وإياد وأرجعهما أبي غصباً عنهما إلى لمنزل، ولم يسمح لهم بالذهاب إلى حتفهما المحتم .عاد إياد منزعجاً وغاضباً من أبي ولم يتحدث مع أحد في المنزل لفترة طويلة. بعدها عاد إلى طبيعته وكأن شيئا لم يكن. استغربنا قليلا ولكن فرحنا بأنه عاد إلى صوابه.
كان يوم إثنين في شهر آب/أغسطس عام 2014، كالعادة فتحنا أعيننا لنتحدى يوما آخر ونتخطاه بسلام. عند الساعة العاشرة والنصف صباحاً، لاحظنا غياب إياد. إعتقدنا أنه يتفقد منزلنا الكائن أصلا في الدور الأخير من المبنى، وكنا انتقلنا منه بعد إصابته بالعديد من القذائف وانتقلنا إلى إلى أحد الأدوار السفلية. كان من عادة إياد أن يستيقظ باكرا ليصعد إلى المنزل و ينشغل بأشيائه الخاصة.
صعد أخي الصغير ليناديه لمشاركتنا الفطور لكنه لم يجد أحداً. استغربنا جميعاً لعدم وجوده في المنزل. بدأ القلق يسيطر علينا، كان قلبي يخفق بشدة وبصوت غريب أحسست أنه سيخرج من صدري.
بدأنا بالبحث عنه عند أصدقائه، ذهب عماد للأماكن التي يتردد عليها ولكن ما من أثر له. سألنا الفصائل العسكرية الموجودة في البلدة، ولا خبر عنه، ذهب عماد إلى حاجز المخيم، وكأنه أحس أن إياد جرب الخروج لوحده إلى الشام، ولكن لم يجده ولم يره هناك أحد. طرقنا كل الأبواب، توجهنا كل إلى جهة لنعود جميعا خاليي الوفاض. سألنا في السجون الثورية وفي سجون النصرة وحتى داعش أيضا لا أثر. حل المساء تعبنا كثيرا سقطت أمي باكية متحسرة على ابنها الشاب الذي لا تعرف أين ذهب. بدأت أمي بالصراخ: بدي ابني جيبولي ياه يا ترى أكل، دفيان أو بردان ما أخد دواه معو. إياد كان يعاني من نقص إفراز الغدة الدرقية. أبي ضمها إلى صدره وقال لها “بيجوز ضاق خلقو من البيت، راح يتسلى ويروّح عن حالو ويومين وبيرجع. ردت أمي: ليش ما قلي انو رايح ولوين، أنا أمو مابدو يشوفوني قبل ما يروح يودعني كحل عيني بشوفتو. بقيت تكبي طوال الليل، ولم تستطع النوم وهي لا تعرف مكان ابنها أو كيف حاله.
أما نحن أصابنا التعب وغلبنا النعاس. استيقظنا في اليوم التالي على صوت بكاء وصراخ. عرفته صوت أمي كانت قد صعدت إلى بيتنا لتتفقد ثيابه علّها تجد ما يدلها على مكانه. حملها أبي وأجبرها على النزول وخرج ليبحث عنه من جديد. بقينا على هذه الحال فترة طويلة لا نعرف عنه أي خبر، نضع احتمالات كثيرة نحلل ونستنتج ولكن لا فائدة، فليس هناك شيء مؤكد. كنا دائما نجلس ونتذكر تصرفاته قبل اختفائه بيوم، فنجدها طبيعية عدا أنه طلب من أختي هويته، بحجة أن صديقه يريد رؤيتها. واكتشفنا أن بعض ثيابه قد اختفت. أحزننا أنه لم يودعنا بأي كلمة أو تصرف، أو حتى رسالة يخبرنا بها مالذي حصل معه.
طلبني زميلي بالعمل يوماً وأراني منشوراً على موقع فايس بوك عن إحدى المجموعات السرّية يقول أن هناك شاباً صغيراً من دوما، وأورد المنشور إسم أخي بالكامل، تم اعتقاله على حاجز النازحين في فرع كفرسوسة في دمشق، وذلك بتهمة زراعة الألغام واستكشاف الطريق للجيش الحر. ويقول من يقف خلف المنشور أنه تحدث مع الشاب والذي أخبره قصته، وهي أنه أراد أن يخرج من دوما ليقدم على البكالوريا كطالب لا أكثر. وكان يحمل معه وعد النظام بعدم أذية أي طالب يخرج ومعه البطاقة لإجراء الامتحانات. خرج ليلا فأمسكه شبيحة النظام وضربوه ضرباً مبرحاً أخذوه لفرع الخطيب، ثم حولوه لفرع كفرسوسة. وطلب أخي من الناشر أن يحاول إيصال خبر عنه لأهله لأنهم لا يعرفون عنه شيئاً. صدمني الخبر للوهلة الأولى وبدأت بالبكاء. لم أعرف ماذا أفعل أو بماذا أشعر، هل أفرح لأني سمعت خبراً عن أخي المفقود أو أحزن لأنه معتقل ولا أعرف إن كنت سأراه مرة أخرى أم لا؟ ماذا سأقول لأمه التي أصابتها لوعة الغياب، أأقول أن ابنك بخير ولكنه معتقل لدى الوحوش! يا ترى ما حالك الآن؟ وكيف يعذبونك؟ وهل استطعت الاحتمال بجسدك الضعيف الهزيل؟
يا الله، هذا جزاء من يريد أن يبني لنفسه مستقبلا ويطمح لحياة أفضل؟