الهروب من سوريا غرقاً

امرأة سورية تحمل كالون من الماء في مخيم الرفيد بريف محافظة القنيطرة.

امرأة سورية تحمل كالون من الماء في مخيم الرفيد بريف محافظة القنيطرة.

"وبعد يوم من انطلاق الرحلة وكنا لا نزال ننتظر دورنا، تلقى والدي اتصالاً يفيد بغرق أحد القوارب وإنقاذ بعض الركاب. ذهب والدي على عجل ليرى الجثث، رأى عمتي وأطفالها وزوجها بين المتوفين"

حينما انتقلنا للعيش في تركيا في العام 2014، لم تكن ظروفنا المادية جيدة. أنفقنا مبلغاً كبيراً في تنقلنا بين بلدان عدة.
تعرضنا لعملية نصب من قبل سمسار بيوت، لم نتوقع أنه نصاب محترف، نصب على آخرين غيرنا. هذا ما عرفناه لاحقاً، لقد تعرفنا عليه أثناء بحثنا عن منزل حينما وصلنا إلى منطقة مرسين، ثم وبعد أن عرض علينا أكثر من منزل، بعروض مختلفة ومواصفات متنوعة، أعجبنا أحدها واتفقنا معه أن نستأجر المنزل لمدة سنة.
وقعنا العقد ثم تفاجأنا أن العقد مزور. وأتى أصحاب المنزل بعد 10 أيام من مكوثنا فيه، وأمهلونا بضعة أيام لنخرج منه وإلا فسيتصلون بالأمن. اضطررنا أن نترك المنزل ونخرج. و بدأنا نبحث عن منزل آخر لنستقر فيه. ثم وفقنا الله و وجدنا منزلاً آخر، أقمنا فيه لمدة 3 أشهر فقط.
لم نكن نخطط للاستقرار في تركيا، خاصة بعد أن بحث والدي عن عمل و لم يجد. ثم و بعد تفكير عميق وطويل لم نجد حلاً مناسباً أكثر من السفر الى أوروبا، نحن وعمتي وعائلتها. وبدأنا نسأل ونستفسر عن طريق للسفر.
وخلال بحثنا الطويل قد توصل زوج عمتي عن طريق صديق له إلى رقم مهرب. أخبره صديقه أنه سافر عن طريق هذا المهرب قبل سنة. وهو الآن يستقر في هولندا وأحواله جيدة. أخذ زوج عمتي كل المعلومات المتعلقة بالمهرب من صديقه وأرسلها إلى والدي.
خابر والدي المهرب وسأله عن تكلفة الرحلة وموعد الانطلاق، واتضح أن هناك رحلتين كل 6 أشهر. وأنه بعد أسبوع ستنطلق أخر رحلة لهذه السنة، وعلينا أن نتخذ القرار بسرعة إذا كنا نريد السفر. كان المبلغ المطلوب كلفة السفر كبيراً جداً. خاصة أن عددنا كبير. فلم نجد سبيلاً لتأمين المبلغ إلا عن طريق بيع منزلنا في سوريا.
باع والدي منزلنا بخسارة، ولكنه قال أن الله سيعوضنا. المهم تأمين المبلغ االمطلوب للرحلة. وعمتي كذلك الأمر باعت كل ما تملك من ذهب. ووضعت ما جمعته من مال هي وزوجها لتأمين مبلغ السفر. وانطلقنا إلى منطقة بودروم لمقابلة المهرب قبل موعد الرحلة.
حين وصلنا إلى بودروم التقينا المهرب الذي شرح لنا بعض التفاصيل عن الرحلة. أخبرنا أن الأمور ستسير على ما يرام، ولكن علينا أن نسلمه المال قبل يومين من السفر. وفعلاً سلمناه المال، و أخبرنا المهرب بأنه سيقسمنا إلى مجموعتين، لم نوافق الكل اعترض.
ولكنه قال لنا أن عددنا كبير، وهو يقسم حسب ما يراه مناسباً. وقال أن اول مجموعة ستسافر غداً، وبعد يومين ستلحق بها المجموعة الثانية … وحينما أتى موعد السفر خرجنا جميعنا إلى الميناء كانت الساعة 11 قبيل منتصف الليل.
فوجئنا بما نراه، كانوا يضعون عدداً أكبر من المتفق عليه في كل قارب. وكان أحد القوارب مصاباً بعطل وحصل سجال بين المهرب والبحارة، أخبروه أنه عليهم تصليحه قبل الانطلاق، فصرخ بوجوههم هو ورجاله وأجبروهم على استخدام القارب. لم يكن الوضع مريحاً ابداً.
وبعد يوم من انطلاق الرحلة وكنا لا نزال ننتظر دورنا، تلقى والدي اتصالاً يفيد بغرق أحد القوارب وإنقاذ بعض الركاب. ذهب والدي على عجل ليرى الجثث، رأى عمتي وأطفالها وزوجها بين المتوفين. خبر وفاتهم وقع علينا كصاعقة.
دفنا جثثهم بيوم واحد جميعهم، بدل أن نلتقى في أوروبا كما اتفقنا. وكان بعد وداعهم ذلك لقاء قريب ولكن يا ليته لم يكن. بعد ما حصل مع أقاربنا عدلنا عن فكرة السفر، وحاولنا التواصل مع المهرب لاسترجاع أموالنا، ولكنه اختفى. البعض يقول أنه هرب الى لبنان، والبعض يقول أنه يختبئ من قوات الأمن التركية.
بعد فقدان أحبتنا وضياع مالنا، عدنا إلى مرسين لنرتب أمورنا ونستقر فيها. ولكن ما حدث معنا لم يفارق أذهاننا، فصورة وجه عمتي حينما صعدت إلى القارب لم يغب عن ذاكرتي لحظة. و كل ما قالته حفر ببالي. إخوتي الصغار لم نستطع إخبارهم عن وفاتها.
أخبرناهم أنها وصلت و ستحدثنا قريباً، وهم يسألون عنها كل يوم وتدمع أعيننا على ما حصل لها. جدتي كل يوم تبكي عليها وعلى اطفالها. رحمها الله عليها وعلى كل ضحايا ذلك القارب المشؤوم وأسكنهم الجنة .
ريما القاسم (23 عاماً) طالبة جامعية في كلية التربية وتعمل كمدرسة في روضة أطفال.