المناهج الجديدة: ارتجال… أم رهان على المعجزات؟
نظرة عن قرب حول المناهج الدراسية الجديدة في سوريا
بقلم: سامي حاجي
تتبنى وزارة التربية خطة لتطوير المناهج التعليمية منذ بضعة سنوات بدأت بها من مناهج المرحلة الابتدائية. في هذا العام وصل التطوير إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية، وحصراً الصف الأول من كلا المرحلتين ، على أن يطال التطوير باقي صفوف المرحلتين في السنوات اللاحقة.
وسأتناول هنا منهاج الفلسفة للصف الأول الثانوي كمثال أتطرق إليه بالتمحيص والدرس.
بداية، يرغب هذا المقال في عرض أهم الوسائل والطرائق والاستراتيجيات التربوية، وأموراً أخرى يركز عليها “كتاب المدرس”، والذي هو بمثابة دليل يساعد المدرس ويبين له كيفية التعامل مع المناهج الجديدة.
أولاً: حول المنهاج: الطرائق والأدوات
1- جاء تطوير المنهاج في الفلسفة، كما تقول مقدمة كتاب المدرس، انطلاقاً “من حاجات التطوير والتحديث، وتلبية لدعوة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الإصلاح في مجال التربية”، وذلك ” بما يخدم حاجاتنا الوطنية والقومية، ويعزز تراثنا الأصيل، ويؤدي إلى نبذ ذهنية الانغلاق والسلبية”.
2- التعديل في مادة الفلسفة لم يطل إلا الصف الأول الثانوي. ويتألف الكتاب من ثلاث وحدات أساسية ، هي عبارة عن مداخل لكل من (الفلسفة وعلم الاجتماع والنفس). تتفرع منها في كل وحدة عدة دروس. كما يتضمن الكتاب الذي سيتم التعاطي من خلاله مع الطالب، صوراً ونصوصاً للمناقشة.
3- تختتم مقدمة ” كتاب المدرس” بتوقع بعض الصعوبات التي قد تقف في وجه تطبيق هذا المنهاج الذي لا يتميز فقط بمضمونه الجديد تماماً، بل وبأساليب تقديمه إلى الطالب والأدوات التي يحب الاستعانة بها من أجل ذلك. ومن الصعوبات المذكورة، تقول المقدمة “.. فربما لم يعتد المدرس هذا النوع من استثارة النشاط الطلابي والاعتماد عليه، وربما لا تناسب البيئة الصفية بمقاعدها العتيدة العمل ضمن مجموعات نقاش صغيرة ولا كبيرة” لذلك فإن الحل لهذه المشكلة هما عبارة عن أمنيات يتمناها من كتب المقدمة، مصدرها هو أن هؤلاء الأخيرين يعلمون ” أن المدرس والطالب حين يريدان يستطيعان أن يوظفا ما هو متاح في بيئتهم بطريقة إبداعية ربما لا يتوقعها أحد”.
4- الاستراتيجيات المتبعة في تدريس مقرر الصف الأول الثانوي هي، ” التعلم التشاركي والتعلم النشط” وهما “إستراتيجيتان تحولان العملية التدريسية من تعليم تقليدي محوره المدرس الناقل للمعرفة، إلى تعلم محوره نشاط المتعلم فردياً وجمعياً” أي لم يعد المدرس كنز المعلومات الذي ينهل منه الطالب، بل يجب على هذا الأخير أن يغدو مشاركاً في صناعة المعلومة والوصول إليها وفعالاً في عملية التعلم. وبهذا يغدو المدرس ميسراً للدروب التي تساعد الطالب على أن يكون كذلك؛ أي يعتمد التعليم ثنائية (المدرس/الميسر – المتعلم/ المشارك).
5- من الطرائق التي يقترحها الدليل في تدريس المقرر، والتي تم التأكيد عليها في الدورة التدريبية التي أجرتها وزارة التربية للمدرسين، هو تقسيم الطلاب إلى مجموعات يقترح الدليل أن تكون المجموعة بين (4- 7) طلاب ” يجلسون بحيث يرى بعضهم بعضاً حول طاولة، أو على الكراسي في شكل دائرة” و ” تحتاج كل مجموعة إلى ميسر ينظم إيقاع العمل فيها وإلى موثق لكتابة ما توصلت إليه المجموعة”. ويجب أيضاً ” أن تتوافر أجواء مريحة تمنح الطلبة الشعور بالثقة، والعمل بحرية ونظام، ابتداء من تسمية المجموعة، وتوزيع المهمات بين أعضائها، والاتفاق على قواعد العمل”.
6- دور المدرس في التعلم التعاوني: أ – الإشراف على التخطيط والإعداد: تحديد الأهداف – تحديد حجم المجموعات – توزيع الطلبة في المجموعات – تحديد زمن العمل – تنظيم بيئة الفصل – إعداد المواد التعليمية – تحديد الأدوار داخل المجموعات ( قائد – مقرر – مستوضح – مراقب – ناقد – مشجع)- التقويم. ب – الإشراف على تنظيم المهمات: شرح مهمات المجموعات – تنظيم التبادل – تحديد المسؤولية لكل فرد – بناء التعاون بين المجموعات – تحديد السلوكيات المرغوب في. جـ – المراقبة والتدخل: الملاحظة – تقديم المساعدة – غلق الدرس – التقويم.
7- ومن الطرق الأخرى المقترحة لتقديم المقرر للطلبة: ( طريقة العصف الذهني، طريقة المناقشة، طريقة حل المشكلات، طريقة المحاكاة ولعب الأدوار، طريقة الاستقصاء/ الاكتشاف، طريقة الدراسات الحقلية والزيارات الميدانية (الخبرة المباشرة)، إستراتيجية تحليل القيم والاختيار العقلي).
8- أما عن مرحلة التقويم وأدواته المذكورة في ” كتاب المدرس” فهي ” الاختبارات، الملاحظة، الاستبانة، دراسة الحالة، التقارير الذاتية”. والاختبارات بدورها تنقسم إلى عدة أنواع ” أولاً الاختبارات المعرفية: وهي على أنواع أيضاً كالاختبارات الشفوية والاختبارات التحريرية التي تقسم إلى اختبارات مقالية واختبارات موضوعية، وثانياً اختبارات الأداء من خلال بطاقة الملاحظة التي يسجل عليها المدرس/الميسر ملاحظته لقياس قدرة الطالب على الأداء أو مهاراته، وثالثاً تقويم المجال الوجداني: وهو أسلوب لتقويم الاتجاهات والقيم والمواقف لدى الطلبة.
9- الدرس مقسم بالدقيقة… لكل مرحلة من المراحل دقائق معينة.
10- الوسائل التعليمية المقترحة والتي يتكرر أغلبها في معظم الدروس هي ( السبورة الضوئية، البطاقة التعليمية، التسجيلات الصوتية، التلفاز أو الحاسوب، السبورة الصفية، أوراق، أقلام، رسومات، أعمال فنية منوعة، كتب فيها قصص وأشعار، أجهزة موسيقية، جهاز إسقاط، أفلام، شاشات عرض، جهاز فيديو، وحقائب تعليمية تحوي أشرطة فيديو و cd وشفافيات ولوحة من قماش الفانيلا لتعليق الصور وعرضها، لواصق خاصة للورق على الجدران… إلخ) ( إذا انقطع التيار الكهربائي….).
ثانياً: معوقات أولية وأساسية:
11- من السابق لأوانه الوصول لأحكام نهائية وناجزة، فالعام الدراسي في أوله، والمدرس لم يتح له بعد الاطلاع على مضمون المنهاج بالكامل، على الرغم من تسريبات على أن بعض المناهج لا تخلو من أخطاء، وبعضها فادحة. كما أن المرء يحتاج إلى وقت ليلمس النتائج على الأرض عبر معاينته العيانية لمكامن الصعوبة والعثرات التي تقف عائقاً أمام التعاطي الايجابي مع المناهج الجديدة. ولكن في نفس الوقت، هذا لا يمنع من مقاربة بعض المعوقات التي يستطيع المدرس استخلاصها معتمداً في ذلك على الخبرة التي راكمها في حقل التدريس، وهو ما بدأنا نلمسه منذ الأيام الأولى التي توفر فيها الاطلاع على هذه المناهج.
12- يقرر السيد وزير التربية علي سعد ” أن المناهج الجديدة تخلو من التكرار والحشو والمعلومات التي قد يجدها البعض غير مفيدة”. وبالفعل، وهذه نقطة تسجل لصالح منهاج الفلسفة الجديد للصف الأول الثانوي، أنه لا يقارن بالقديم الذي كان سيئاً بكل المقاييس، لما فيه بالضبط من أخطاء وحشو.
13- إن تأكيد السيد وزير التربية على أن ” المرجعية في تأليف المناهج الجديدة كانت للنظريات التربوية”، هو بالضبط – وعلى الرغم من أهمية هذه المرجعية – مصدر تخوف أن يقف الأمر عند هذا الحد دون أن يتعداه إلى ما سأسميه ” بالبنية التحتية” للعملية التربوية، والتي لا يوليها الوزير أي اعتبار في كل مقابلاته وندواته التي ظهر فيها. العملية التربوية كل لا يتجزأ، ولا سبيل إلى نجاحها من دون لمس هذه الحقيقة.
14- ما أقصده بـ “البنية التحتية” يشمل المدارس والمدرسين والطاقم الإداري وتوافر الأدوات والوسائل التي يحفل بذكرها “كتاب المدرس” كأدوات رئيسية في تقديم المناهج الجديدة.
15- المشكلة الأولى التي ستواجه العملية التربوية الجديدة، هي الكم الهائل من الطلاب داخل كل صف. فمثلاً، في العام الماضي تراوح عدد الطلاب ضمن كل صف من 45 وحتى 48، وكنت شاهداً أنا وزملائي على مدى المعاناة التي تسببت فيه هذه الأعداد لكل من الطالب والمدرس، ولا زلت أذكر أن عدداً من الطلاب كانوا يمضون أوقاتهم في الدرس إما وقوفاً أو جلوساً على الأرض لعدم توفر أماكن لهم، ناهيك عن الفوضى التي ستنتشر بشكل طبيعي وحتمي لهذا السبب بالذات. هذا كان في العام الماضي. أما الآن، فالوضع أكثر كارثية. إذ لا يقل عن عشرين طالباً زادوا في كل صف، عن الأعداد في العام الماضي!! ولنتخيل إذاً كيف سيكون الوضع في هذا العام. هذا أمر لا يستهان به في حقيقة الأمر، وخصوصاً أن المناهج الجديدة تقوم على طريقة حديثة في التدريس تعتمد نظام المجموعات والمناقشة بين الطلبة بعضهم ببعض، وبينهم وبين المدرس من ناحية أخرى. يطالب “كتاب المدرس” بتقسيم الطلاب إلى مجموعات، حيث كل مجموعة تتكون من (4-7) طلاب يجلسون حول طاولة أو على كراسي بشكل دائري، هذا الأمر جعل الكثير من المدرسين يتهامسون: هل هذه المناهج لهذه المدارس؟!!. أمام العدد الكبير لن يكون أمام المدرس إلا خيارين: إما أن يقسم الطلاب إلى مجموعات تضم عدداً كبيراً من الطلبة، وهذا يعني انتفاء الفكرة الأساسية وراء وجود هذه المجموعة، ألا وهي الحوار بين الطلبة حول المسائل الموكلة إليهم. وإما أن يضع في المجموعة عدداً قليلاً من الطلاب، ولكن هنا سيكثر عدد المجموعات وهذا لن يعني إلا أن فرص كل مجموعة في هذا النشاط سيقل إلى درجة كبيرة. والأنكى من كل هذا هو الضجيج الذي سيترتب على النقاش بين الطلبة بشكل حتمي بسبب هذه الأعداد المهولة، ناهيك عن الفوضى والشغب. فإذا كانت هذه حال الطلاب، فإن باقي الأطراف والعمليات المعنية في تسيير العملية التربوية بحلتها الجديدة ( أنظر أعلاه الفقرات رقم 6- 7- 8 ) فإنها ستلاقي نفس المصير من المعاناة والإعاقة. فكيف للمدرس فعلاً أن ينجز دوره الجديد بشكل سليم ومتقن؟ بل وكيف لعملية التقويم أن تنجح أصلاً وخصوصاً ما يتعلق منها بجانب الاختبارات التحريرية؟
16- كتاب المدرس كريم بذكر الوسائل التعليمية التي يقترحها في العملية التربوية الجديدة (الفقرة 10). ولكن ماذا لو قلنا أن 90% – على أحسن تقدير طبعاً – من هذه الوسائل ليست متوفرة حتى في أفضل مدارسنا وأكثرها نموذجية؟!! إن مجرد ذكر هذه الوسائل في كتاب المدرس، بل واقتراح الوسائل المناسبة منها لكل درس، فهذا يعني أنها من الضروريات التي يجب توفرها في التعاطي مع المناهج الجديدة؛ وغير ذلك لن يعني إلا المزيد من العثرات أمام توصيل هذه المناهج وتحقيق الغايات منها. إن الحجة التي يكررها “كتاب المدرس” عن أنه في حال انقطاع التيار الكهربائي يجب اللجوء إلا الوسائل التقليدية القديمة في توصيل المعلومات، هي نكتة ساذجة وغير مضحكة، ولا تثير إلا التعجب!!.
17- توفير كادر إداري (المدراء ومعاونيهم والموجهون والمرشدون النفسيون و…) حازم ومهني ومنضبط وقادر على التفاعل مع المشكلات والقضايا التي تحدث في داخل المدرسة، بحيث يكون دوره مكملاً لدور المدرس في العملية التربوية وعوناً له. وهذا للأسف نادر الوجود، وخصوصاً على صعيد المدراء ومعاونيهم، لأن المعيار في انتقاء هؤلاء الأخيرين، ليس الكفاءة، بل الولاء والعلاقات الشخصية. فالمدير لا يصبح كذلك إلا إذا كان منتمياً لحزب البعث، وبغض النظر عن كفاءاته وقدراته وشخصيته.
18- لم يجد السيد الوزير مشكلة أمام تطبيق الناهج التربوية الجديدة إلا الوقت. لذلك صرح أنه سيقوم بزيادة وقت الدوام في المدارس ساعتين على الأقل!! ليعلم السيد وزير التربية أن كلاً من الطلاب والمدرسين، لا تأتي الحصة الدرسية السادسة، إلا ويكون الجميع في قمة الإرهاق والتعب. فكيف سيكون الحال عندما سيصل الدوام إلى حدود الرابعة مساءً تقريباً؟!! لقد أثار هذا الخبر إحباطاً عند المدرسين، وخصوصاً أن علاقتهم مع المدرسة والمناهج لا تنتهي مثل غيرها من الوظائف، بانتهاء الدوام الرسمي، بل ثمة جهد سيبذل في البيت من تحضير للدروس (وخصوصاً أن المناهج جديدة) وتصحيح لأوراق الاختبارات والاطلاع على بعض المراجع. فماذا عن راحته وعائلته وعن حياته الاجتماعية التي لا تختزل في كونه مدرساً؟ ونفس الشيء يقال عن الطلاب.
19- من الأمور الهامة التي تندرج في إطار “البنية التحتية” أيضاً، هي الوضع المعيشي المتردي. وهذا الأخير رغم أنه ليس خاصاً بالعاملين في السلك التربوي، بل سمة عامة في سوريا؛ ولكن لا بأس في تناول بعض نتائجه على العملية التربوية. فالمدرس الذي لا يستطيع أن يعيش بمرتبه عيشة كريمة في أحسن الأحوال، ولا يؤمن له الحد الأدنى من متطلبات العيش الأساسية، فإن هذا لا بد أن ينعكس على عمله وأدائه بالسلب حتماً. فمن أهم ما يترتب على هذه الحالة، هو أن سينظر إلى طلابه ليس من موقع المربي، وإنما من موقع المستثمر الذي يبحث عن فرص قد يجدها فيهم لتحسين شروط حياته، هذا من ناحية؛ ومن أخرى كيف لهذا المدرس الذي يمضي أغلب الوقت بعد نهاية الدوام وهو يتنقل من مكان إلى آخر ليعطي دروساً خصوصية؛ كيف له أن يكون في كامل لياقته في المدرسة. إن وضع المدرس المعاشي البائس، وما يترتب عليه من سعي لتوفير متطلبات عيشه، له من الآثار المدمرة للعملية التربوية الشيء الكثير، فإضافة لما ذكرناه، فإنه يفقد إيمان المدرس بمهنته، كما يفقد من هيبته واحترامه عند الطلاب.
20- قد يرى البعض أننا من النمط الذي يريد كل شيء دفعة واحدة، وأننا بذلك نضع العصي في العجلات. ولا أدري كيف سيرد هؤلاء على سؤال بسيط من مثل: ماذا كانت تفعل وزارة التربية، ومن ورائها حكومة العطري العتيدة، طوال العشر السنوات المنقضية من عمر ” التطوير والتحديث”، في مجال التربية والتعليم؟ حقيقة نريد أن نعرف، ماذا أنجز في هذا المجال؟ المدارس، التجهيزات، المناهج، المعاشات…؟!!
21- وأخيراً، لم نتطرق إلى مضمون المناهج توخياً للموضوعية التي تتطلب منا التأني والتعامل مع هذه المناهج عن قرب حتى يتبين لنا إن كان ثمة مواضع خلل في المعلومات التي تقدمها هذه المناهج. ولكن يبقى تساؤل: أمام كل هذه المعيقات التي أتينا على ذكرها، هل كان إقدام وزارة التربية على هذه المناهج نوع من الارتجال أم رهان على المدرس – المعجزة الذي يجعل من الهواء شاشة عرض؟!! على كل حال، هذا ما نفهمه من الصيغة الملطفة والساذجة التي تختتم بها مقدمة “كتاب المدرس”. (أنظر أعلاه الفقرة رقم 3).