الحراك المدني المعارض يستمر رغم العسكرة

“ثرنا ضد نظام الاستبداد، لأنه يسمّم حياتنا ويستهتر بها. في النضال السلمي يكون احتمال اعتقالك حوالي تسعين بالمئة وعشرة بالمئة لاحتمال الموت، أما في الخيار العسكري فالنسب السابقة تصبح معكوسة، وهذا يتعارض مع قيمي لأنّني أقدس الحياة، مما دفعني للابتعاد.”

بهذه الكلمات يشرح الشاعر والكاتب محمد ديبو ذو الستة وثلاثين عاماً، سبب توقفه عن المشاركة في الانتفاضة السورية، بعد أن اشترك منذ البداية في المظاهرات والتغطية الإعلامية للنشاطات المعارضة. يقول ديبو إنه تمسك بالنشاط السلمي إلى أن حلّت “حرب مفتوحة”، وحينها انسحب من النشاط الميداني وبدأ يكتب عن مخاطر السلاح.

 مظاهرة مسائية في السلمية هذا الشهر - يوتيوب
مظاهرة مسائية في السلمية هذا الشهر – يوتيوب

بعد تشكيل “الجيش الحر” من ضباط وجنود منشقين في تموز/يوليو العام 2011، وقعت أولى المعارك الكبرى بين الجيشين النظامي والحر في أيلول/سبتمبر في محافظة حمص، وبدأت الأعمال العسكرية بعدها تنمو لتصبح الوسيلة الأساسية في جهود المعارضة لإسقاط النظام.

بالإضافة إلى التعرض للاعتقال والتعذيب على يد القوات الحكومية، كانت سيطرة العسكرة على النشاطات المعارضة واكتسابها صبغة إسلامية سبباً رئيسياً وراء ابتعاد العديد من النشطاء السلميين، مثل ديبو، عن أي نوع من النشاط الميداني. إلا أن هناك ناشطين آخرين ما زالوا متشبّثين بالحراك السلمي بصوره الأولى.

يشير باسل (25 عاماً)، وهو ناشط إعلامي في المعارضة من بلدة القريّا في السويداء، أن الحراك السلمي لا يزال قوياً ضمن المجتمعات التي توصف بأنها تضم أقليات دينية. ويذكر باسل محافظة السويداء، التي تتكون غالبية سكانها من الدروز، مثالاً على ذلك.

“لا تزال قرى وبلدات السويداء، لا سيما القريّا وشهبا، تشهد توزيع مناشير ومظاهرات تضم المئات،” يقول باسل، الذي يلوم القنوات الفضائية العربية والعالمية على تهميش هذه الاحتجاجات السلمية.

وقد بقيت محافظة السويداء حتى الآن بعيدة عن نشاط “الجيش الحر”، بينما تشارك كتائب معارضة قوامها من المتطوعين من السويداء، مثل “كتيبة سلطان باشا الأطرش”، في القتال ضد النظام في محافظة درعا المجاورة.

ويؤكد قيس (30 عاماً) أيضاً، وهو ناشط إعلامي من مدينة السلميَّة في محافظة حماه، أن الاحتجاجات السلمية لم تتوقف في سوريا. ويشير إلى أن الحراك السلمي في مدينته التي يسيطر عليها النظام لم ينطفئ مع أن وتيرته تراجعت.

“بينما كانت المظاهرات تضم الآلاف أصبحت الآن تضم بضع مئات، وعوضاً عن استمرارها عدة ساعات أصبحت لا تطول عن ربع ساعة،” يقول قيس، عازياً هذا التراجع إلى البطش المتزايد من قبل قوات النظام.

يضيف قيس أن المظاهرات السلمية لا تزال فاعلة في المناطق التي يسيطر عليها “الجيش الحر” وأن وظيفتها ليست فقط التأكيد على معاداة النظام. يذكر قيس مظاهرات جرت خلالها مواجهات بين مقاتلي المعارضة والمتظاهرين السلميين الذين يرفضون ممارسات المسلحين. وهذا إن دل على شيء، بحسب رأيه، فإنه يدل على أن النشطاء السلميين لا زالوا يعملون ضد العسكرة.

وقد تصادم متظاهرون في حي بستان القصر في حلب مع عناصر من “الجيش الحر” و”جبهة النصرة” في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وهي حادثة تكررت هذا الشهر في سراقب في محافظة إدلب، حيث قام عناصر من “جبهة النصرة” باعتراض المتظاهرين وتمزيق علم الثورة السورية.

من بين النشطاء السلميين أيضاً من انخرط في العمل الإنساني، معتبرين ذلك مساهمة في الثورة.

إحدى هؤلاء هي ورد (29 عاماً)، التي تحوّل نشاطها من التظاهر إلى المشاركة في أعمال الإغاثة وتقديم الدعم النفسي للأطفال في المناطق التي تشهد قتال.

“ما فعله النظام هو ما دفع البعض للخوف والابتعاد عن الحراك السلمي، فهم إما اختاروا السلاح، أو التوقف، أو تغيير صيغ العمل،” تقول ورد، التي لا تتوانى عن اتهام النظام بالوقوف خلف ظهور الحركات الدينية المتطرفة عبر خلق بيئة من الجهل والعصبيات الفئوية.

مستقبل النشاط السلمي

يتفق الناشطون السلميون على أهمية الحراك المدني، ولكن آراءهم تختلف فيما خص مستقبل هذا النوع من العمل المعارض. تشير ريم (23 عاماً)، وهي ناشطة من حلب توقفت عن أي عمل سياسي، إلى المواجهة الأخيرة بين المسلحين والمتظاهرين في بستان القصر بشيء من التشاؤم، فهي تخشى أن ينهار النشاط المدني تحت ضغط كل من الجماعات المسلحة الإسلامية من جهة والنظام من جهة أخرى.

“لا أدري إلى أي حد سيبقى النشطاء السلميّون قادرين على مواجهة جبهتين في الوقت نفسه، والجبهتان هما في الكثير من النقاط وجهان لعملة واحدة،” تقول ريم. وتتحدّث عن الانتهاكات التي يتعرض لها النشطاء السلميّون على أيدي المعارضة المسلّحة في حلب: “هناك اغتيالات وأحكام إعدام بحق نشطاء سلميين عملوا على فضح بعض الممارسات، إضافة إلى تعرّض آخرين للإعتقال والتعذيب، إنّه الوجه الآخر لنظام الأسد.”

في مقابل هذا التشاؤم، ترى سارة (21عاماً) من مدينة السلمية أن الحراك المدني لا بد له من أن يسترجع الزخم الذي فقده، على الرغم من سيطرة منطق السلاح حالياً.

“أثق على الأقل بأصدقائي الذين شاركوني النشاط السلمي، لإنهم يطمحون للأمر ذاته،” تقول سارة.

من جهته لا يستبعد قيس دور “الجيش الحر” في إسقاط النظام، ولكنّه يضع ثقته في النشطاء المدنيّين وقدرتهم على قيادة المجتمع السوري في المستقبل عبر تقديم رؤية تتضمن إنشاء دولة مدنية. ويشير قيس إلى أن كثيرين من النشطاء السلميين في السَّلميَّة منكبّون حالياً على بناء أحزاب سياسية تضع مشاريع مستقبلية لسوريا.

“السلاح سوف يسقط النظام، ولكن عندما يتوقف هذا الدعم الخارجي الذي يدمر سوريا، سيتقدم النشطاء السلميّون بمشروعهم الذي سيستقطب الفئة الصامتة،” يقول قيس.

قام فريق التحرير باستبدال أسماء المحاورين (باستثناء محمد ديبو) بأسماء مستعارة استجابة لطلبهم