البحث عن الفرح ليلة العيد
لم تكن ليلة العيد التي انتظرناها في مدينة اللاذقية هذا العام ليلة عادية. إعلان رؤية هلال شهر شوال ليلة 17 تموز/يوليو 2015، كان بمثابة حكم الإفراج عن العديد من الصائمين، الذين مر عليهم شهر طويل مثقل بالأعباء المادية. اختتم بمتطلبات أيام العيد، التي لم تكن أقلّ وطأة وتكلفة عن متطلبات شهر الصوم والتزاماته.
مظاهر العيد لم تغب تماما عن مدينة اللاذقية خلال سنوات الثورة. المناطق الثائرة في المدينة، كأحياء لرمل الجنوبي والصليبة، ابتعدت قليلاً في البدايات عن إشهار تفاصيل الاحتفال، وتزيين الشرفات, وإقامة ملاهي الاطفال، خاصة عند اشتداد عمليات الاعتقال، وإعلان أسماء لشهداء تحت التعذيب من أبناء الحي. الأحياء الأخرى، التي اكتفت بالمشاهدة، حاولت جاهدة الحفاظ على استمرار مظاهر العيد، وإن كانت بحدودها الدنيا. أما الريف المحرر، فحاول أبناؤه اقتناص الفرصة، لجعل الأطفال هناك ينعمون ولو بجزء بسيط من مباهج العيد، والتأقلم مع طائرات النظام التي تقف لهم بالمرصاد.
ليلة العيد هذه السنة كانت استثنائية. الجميع من مقيمين ونازحين قرروا الاحتفال. رغم قلّة الإمكانيات وضيق ذات الحال. وأنا ايضا قررت الإنضمام اليهم، بعد مقاطعة طويلة، سببها التضامن مع السوريين الثائرين. فترة طويلة مرّت، وأنا أعتبر أن مجرّد الاحتفال وشراء الحلويات والملابس وتبادل التهاني، هو خيانة لدم الشهداء. لا مبالاة بآلام المعتقلين، ورقص على عذابات المشردين. أفكار ظلّت تراودني طيلة سنوات، قررت التخلّي عنها فجأة خلال هذا العام, فأنا ما زلت مخلصة لدماء الشهداء وآلام المعتقلين، لكنني ببساطة، مثل جميع السوريين, كنت مشتاقة للشعور ببعض الفرح.
أسواق اللاذقية اكتظت بالمارة والمتسوقين. حركة وصخب كبير عم الأجواء، قطعت بعض الطرقات ولم يسمح للسيارات بالمرور، لاستيعاب هذا الكم الهائل من المتسوّقين. ازدحام أسواق العيد أعادني إلى أيام اشتقتها، رغم خلوها من رائحة كعك العيد الآتي من بيوت الجيران، فكلفته العالية جعلته جزءًا من الماضي الذي نحبه. دفعتني هذه الحركة الشرائية الكثيفة للاعتقاد أن الركود الذي اشتكت منه أسواق المدينة لفترة طويلة قد زال. لكن أحد اصدقائي الذين يعملون في متجر لبيع الملابس، أخبرني أنهم ” يدخلون ليسألوا عن الاسعار، ينصدمون بالأرقام، ويذهبون إلى أسواق الملابس المستعملة دون رجعة”.
الأطفال ملؤوا الأسواق بصخبهم وضجيجهم. الصغار كانوا يطالبون أمهاتهم بشراء ملابس ومأكولات معينة، تحولوا فجأة إلى عبء كبير ألقي على عاتق هؤلاء النسوة. إقناع الطفل الصغير بما هو أقل من طموحه، بات أمراً شاقاً على كل عائلة. الطفل لا يستوعب تعبيرات من قبيل: لا تناسب ميزانيتنا، الموارد أصبحت محدودة، من أين سنأتي بالمال؟ فتبقى كلمة “لا” هي الجواب الأكثر بساطة ووضوحاً. تلك الـ “لا” ترمى بوجوه هؤلاء الأطفال، ليكتفوا بدورهم بالبكاء تعبيراً عن تمردهم ورفضهم.
الإنتشار الأمني في الاأسواق كان كثيفاً وقتها. الناس كانت منشغلة بالصراع مع الباعة لم تعر رجال الأمن أدنى اهتمام. كنت واثقة أنهم لا يبحثون عن أمن المواطن وراحته. عيونهم الغارقة بالترقب، أكدت لي أن هناك شيئاً ما سيحصل. عند العاشرة والنصف تماما سمعنا صوت انفجار. إنه صاروخ غراد، لقد بتنا نعرفه، سقط بعيداً ضمن الأحياء الموالية للنظام. فقوات المعارضة العاملة في الريف الشمالي اعتادت استهدافهم، رغم توقف القصف لفترة طويلة. أعقبه بعد خمس دقائق صوت انفجار آخر. وصلتنا أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء، علمنا أنها هرعت الى هناك.
ساد الصمت لبعض الوقت، عناصر الأمن المنتشرين إنشغلوا بإجراء الاتصالات عبر أجهزتهم اللاسلكية “القبضات”، لمعرفة مكان سقوط الصواريخ. عدد الضحايا والأضرار. كانوا خائفين، إشاعات بدء معركة مرتقبة على الساحل مع أول أيام العيد أرعبتهم. وجعلتهم ينتظرونن وقوع هذا الحدث، الذي يضع حياتهم على المحك. وهذا ما يبرر توترهم، فانتظار الأمر بالنسبة لهم، أصعب من وقوعه.
ما يلفتك في الحدث بأكمله هو لامبالاة الناس، وعدم اكتراثهم، وعودتهم سريعا لصخبهم وضجيجهم، وكأن شيئا لم يكن. أصوات الصواريخ لم تشتت انتباههم عن مفاصلة الباعة، واستمرار استغرابهم من ارتفاع الاسعار، والبحث عما هو أرخص، ويناسب ما تحويه جيوبهم.
هم أيضا سمعوا بإشاعة اقتراب معركة ما، لكنهم لم يخافوا. نزلوا إلى الأسواق مع أطفالهم، ليس تحدياً للموت والإرهاب، كما يحب النظام أن يتحدث بدلاً عنهم، فلا أحد منهم مستعد لخسارة طفله مقابل هذا التحدي، الذي لا يعني قسماً كبيراً منهم. وجوههم المتعبة، وعيونهم المشتتة التائهة، تؤكد لك أنهم أيضاً يبحثون عن شيء من الفرح، ما زال بعيدا عن هذه المدينة.
بانة ديب من مواليد اللاذقية حيث تعيش حتى الآن. خريجة جامعة دمشق. تطمح للعمل بمشروع تربوي هادف يؤسس لبناء جيل سوري متعلم بشكل حقيقي.