البالة متنفس الفقراء ومقصد الأغنياء في سوريا تواجه المنع مجدداً
(دمشق، سوريا) – أبو إياد (63 عاماً) أب لأربعة أبناء يقول بأسى “نار الأسعار باتت تحرق جيوبنا نحن الفقراء راتبي التقاعدي 13 ألف ليرة، لا يكفي حتى لإطعام عائلتي، فكيف بشراء الملابس من المحلات العادية، البالة (الملابس المستعملة) هي متنفس لكل الفقراء أمثالنا”.
دفع جنون الأسعار في سوريا مختلف شرائح المجتمع للهروب إلى محلات البالة التي باتت متنفساً للطبقة الفقيرة والمتوسطة وحتى الميسورة، بدا ذلك واضحاً خاصة بعد الأزمة. لكل هدفه من ارتياد البالة، فالفقير يبحث عن السعر المتدني، والغني يبحث عن العلامة التجارية.
باتت محلات البالة أشبه بسوق شعبية مفتوحة، تضم مختلف الأصناف والخامات الأجنبية المستوردة والمحلية، كما باتت تشهد منافسة بين تجار البالة أنفسهم، نظراً للانتعاش الذي شهدته مؤخراً، وانتشارها في مناطق جديدة لأول مرة كالقصاع، الحمراء، والصالحية، والإقبال الكبير على بضاعتها في المناطق التي شهدت نزوحاً، كجرمانا والمزة.
“يجد رب الأسرة في البالة كل ما تحتاجه عائلته، من أحذية وجينزات وملابس بمختلف المقاسات ولجميع الفئات العمرية (نساء، رجال، أطفال)، يمكن شراؤها بأسعار تناسب أصحاب الدخل المحدود، مع تميزها بنوعية جيدة تنافس في جودتها وماركتها أفخم ما تعرضه واجهات المحلات الراقية”، يقول أحد تجار البالة في منطقة القنوات. ويشير البائع إلى وجود بالة مخصصة لبيع الأحذية معظمها لماركات عالمية مسجلة، كما تحوي البالة ملابس جديدة غير مستعملة تتميز بارتفاع أسعارها.
لا تخفي أم وسام (38عاماً) سعادتها وهي تتحدث عن الحذاء الذي اشترته لابنها من البالة العام الماضي، “الحذاء ما يزال جديداً كأنه لم يلبس” كما تقول، تضيف وهي تبحث في محل البالة عن بنطال جينز لابنها: “البالة هي نعمة في ظل الظروف القاسية التي تعصف بنا وبالعائلات السورية”.
في السؤال عن الإقبال الكبير على محلات البالة يقول أحد التجار في جرمانا: “مقارنة بسيطة لأسعار السلع في البالة مع أسعار المعروض في المحلات يتبين السبب، فمثلاً سعر جاكيت رجالي سبور في البالة 1500 ليرة سورية، بينما لا يقل سعرها في المحل عن 15 ألفاً، سعر جاكيت الجلد في البالة أربعة آلاف ليرة، تباع في أي محل ما بين سبعة إلى 20 ألف ليرة، أي بنطال جينز يباع في البالة بسعر وسطي هو ألف ليرة وقد يصل سعره في بعض المحلات إلى 12 ألفاً”.
أمام هذه المقارنة، يقول التاجر إن أسرة من أربعة أشخاص، مثلاً، حتماً ستذهب إلى البالة التي يمكن أن تكسي مجموع العائلة بمبلغ 15 ألف ليرة فقط، بينما لا تكفيها 50 ألف ليرة، لو لجأت إلى واجهات المحلات.
“الملابس المستعملة أسعارها مرتفعة أيضاً، وليست رخيصة كما يظنها البعض”، تقول سلوى (28عاماً) التي تجادل تاجر البالة حول سعر معطف نسائي يعرف باسم “مانطو” .
سلوى زبونة جديدة لم يمض على تعاملها مع البالة إلا أربعة أشهر، تقول: “كنت أنظر بازدراء للبالة، لكني اكتشفت أن لها ميزاتها؛ فـخامة البضاعة التي تعرضها وتنوعها وماركاتها العالمية لا تجدها في أرقى المحلات، وأسعارها تتناسب ودخلي المتواضع”.
يشتري تجار البالة الصغار بضاعتهم من محلات البالة الرئيسية في منطقة الإطفائية والقنوات، ويتم فرز الألبسة إلى أنواع، درجة أولى وثانية وثالثة ونوع “سوبر كريم”، الذي يعني بلغة البالة أنه تصفية محل وغير مستهلك. هذا النوع يتم بيعه في البالة على أنه جديد، ولكل من هذه الدرجات زبون يجد فيها ما يلبي رغبته ويناسب قدرته الشرائية.
ولكن في وجه الإقبال الشعبي على سوق البالة، تنظر الحكومة إلى هذه التجارة على أنها تضر بسمعة سوريا، إذ تستمر بمنع استيراد البالة من الخارج.
معاون وزير الاقتصاد السوري عبد السلام علي صرح لموقع “الاقتصادي” بأن السبب الرئيس لمنع استيراد البالة، “أننا لا نريد لسوريا أن تكون مكباً لنفايات العالم مهما اشتدت الظروف، إضافة إلى أن اتحاد غرف الصناعة والتجارة لها علاقة خاصة في ما يخص إنتاج الألبسة القطنية وصناعة الألبسة الجاهزة، وذلك أن البالة تشكل منافسة كبيرة على المنتج الوطني”. ورغم أن أصحاب المحال من التجار يدفعون الضرائب المترتبة عليهم، إلا أن قسماً كبيراً من بضاعتهم مهربة وعرضة للمصادرة بين الحين والآخر، وفي هذا يقول أحد تجار البالة في منطقة القصاع: “معظم بضاعتنا تأتينا من أسواق لبنان والأردن. نحن مضطرون للتهريب أمام إصرار وزارة التموين والتجارة الداخلية على عدم السماح باستيراد البالة نظامياً رغم مطالبتنا الدائمة بذلك”.
وزارة التموين والتجارة الداخلية اقترحت في وقت سابق الموافقة على استيراد البالة بشكل نظامي شريطة أن تكون مزودة بشهادة صحية خالية من الجراثيم ومعقمة ومطهرة، وأن يتم تطبيق التعليمات النافذة من مكتب مقاطعة إسرائيل على هذا الاستيراد بشكل دقيق، إضافة لتدقيق جميع وثائق الاستيراد في حال الموافقة على ذلك من أجهزة الجمارك والصحة والمقاطعة، ولكن حتى الآن لم تتبنى الحكومة هذا القرار.
عن قرار منع استيراد البالة في سوريا يقول مصدر حكومي اقتصادي لموقع “دماسكوس بيورو”: “هذا القرار قديم جديد، عمره 15 سنة، أعيد إصداره للتأكيد على حماية المنتج الوطني”.”
ويضيف المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه: “كثير من المعامل توقفت عن الإنتاج… معامل الزبلطاني التي كانت تصنع التريكو والألبسة الجاهزة تعطلت بالكامل، كذلك المعامل في منطقة السبينة (جنوب دمشق)، الوضع نفسه أصاب المعامل في حلب. هناك تجار استغلوا هذه الظروف الطارئة، فباتوا هم المتحكمين بالأسعار في السوق، يحددونها وفق رغباتهم”.
ارتفاع الأسعار هذا هو تحديداً ما دفع أم جوزيف (44 عاماً) إلى اللجوء إلى البالة، وهي تقول: “أردت أن أشتري لابنتي بنطال جينز من السوق، تفاجأت بأن سعر البنطال بعد التنزيلات المعلن عنها في المحل 7 آلاف ليرة، ما يعني أن سعره قبل التنزيلات 14 ألف ليرة، بينما لا يتجاوز سعر البنطال في البالة 2500 ليرة؛ باتت البالة ملجأنا”.