الأطفال السوريون في لبنان ضحية التسرب المدرسي

يضطر اللاجئون السوريون إلى الامتناع عن إرسال أطفالهم لأنهم بحاجة إلى المدخول الذي يجنونه من العمل.

رامز أنطاكي*

(بيروت، لبنان) – سمير مسؤول عن التسجيل في مدرسة مخصصة للاجئين السوريين في ضواحي بيروت تم افتتاحها منذ شهرين. يراجع سمير دفتر العائلة الذي تحمله خديجة، وهي سيدة سورية، ويتأكد من تواريخ ميلاد أولادها وجنسياتهم ثم يبلغها أنها تستطيع تسجيلهم في المدرسة، وهم كمال وليلى ومحمود وسعيد. إلا أن خديجة تسارع إلى رفض تسجيل سعيد ذي الرابعة عشر عاماً، قائلة: “أنت تعلم الأوضاع يا أستاذ، سعيد يعمل ليساعدنا”.

أطفال سوريون في بيروت - يوتيوب
أطفال سوريون في بيروت – يوتيوب

امتنع سمير عن ذكر اسمه الحقيقي أو المؤسسة الإغاثية التي يعمل لديها حرصاً منه على مراعاة سياسة هذه المؤسسة، التي تطبق تدابير إعلامية حذرة، تجنباً لاتهامها بالانحياز إلى وسائل إعلام أو تيارات سياسية معينة. تقع هذه المدرسة في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيّين، حيث يعيش أيضاً العديد من اللاجئين السوريين منهم عائلة سعيد، وتستقبل نحو  طالب 200. إلا أن هناك أعداداً كبيرة من الأطفال أو المراهقين الذين لا يحظون بفرصة دخولها. يقول سمير: “لم أنظم إحصاءً رسمياً بمن رفض أولياء أمورهم تسجيلهم بداعي العمل، لكنني أعلم تماماً أنهم بالعشرات”.

في الثالث من نيسان/ أبريل المنصرم أعلنت “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” أن عدد اللاجئين السوريين تخطى المليون، حوالي أربعمئة ألف منهم أطفال في سن الدراسة، ونحو ثلاثة أرباعهم لا تتاح لهم فرصة تلقي تعليم منتظم، بحسب المفوضية.

يستيقظ سعيد صباحاً مع إخوته الذين يتحضرون للذهاب إلى مدرستهم بينما يهم بحمل رزمة كبيرة من أكياس المحارم ليبيعها في الطرقات المجاورة للمخيم، وقد يرافقه مرات جاره محمد، الذي يشاطره عمره وحاله ومهنته. يقول سعيد: “طبعاً أفضل الذهاب إلى المدرسة… تبدو المدرسة هنا أجمل من مدرستنا في سوريا، إخوتي يتعلمون أشياء جميلة. لكن كيف سنسكن ونأكل إن لم أساعد أبي من خلال عملي؟”.

والد سعيد رفض التحدث إلى موقع “دماسكوس بيورو”، لكن والدته خديجة شرحت وضع العائلة: “بدل إيجار المكان الذي نسكنه يبلغ 350 دولار وهذا بالكاد ما يستطيع زوجي تحصيله من خلال عمله كعامل بناء مياوم بالإضافة إلى فواتير الكهرباء والماء، أما كلفة الطعام والأمور الأخرى فنهتم بها من خلال ما يوفره عمل سعيد”. تساهم أيضاً بعض الجمعيات في دعم عائلة سعيد من خلال تقديم بعض الإعانات الغذائية والعينية الدورية. وتتفهم أم سعيد رفض زوجها التحدث، فهو برأيها يشعر بالذل جراء قبوله بأن يعمل ابنه بائعاً متجولاً، وتكمل “هذا الأمر ما كان ليحدث لو لم نتحول إلى لاجئين في بلد غريب لا يرحم”.

حالة سعيد حالة ليست بالنادرة بين اللاجئين السوريين في مخيم شاتيلا.  جميل، وهو لاجئ من درعا يسكن أيضاً في مخيم شاتيلا، يعتمد جزئياً على المدخول الذي يجنيه ابنه حسن (14 عاماً)، وإن كان يرفض أن يدعه يعمل بائعاً متجولاً: “في سوريا كنت أخاف عليه، فكيف يمكنني القبول أن يعمل هنا في الشوارع متعرضاً لشتى أنواع الأخطار؟”. تدبر جميل لابنه حسن عملاً في متجرٍ للأدوات المنزلية ضمن المخيم، حيث يحصل على 50000 ليرة لبنانية (33 دولار تقريباً) أجراً أسبوعياً، بالإضافة إلى ما قد يحصله كإكراميات جانبية من زبائن المحل. يقول جميل: “تكفيني راحة البال، فأنا مطمئن إلى مكان وجود ابني وإلى سلامته… صحيح أنه حرم المدرسة لكن الحياة كما ترى هنا صعبة ولا بد أن يعتادها عاجلاً أم آجلاً”.

تغيب الدولة اللبنانية عن المخيمات الفلسطينية، كما أن الأجهزة الحكومية بشكل عام تتساهل مع عمالة الأطفال. ولكن الأطفال الذين يخرجون للعمل يحرصون على البقاء في المناطق المحاذية للمخيم. يقول عمر (12 عاماً): “أبيع المحارم الورقية على مفارق الطرق وقرب الإشارات المرورية، من النادر جداً أن يتعرض لنا الدرك (الشرطة اللبنانية)، وحين نسمع من الأصدقاء في يوم ما أن الدرك يمسكون بالأطفال، نسارع إلى العودة نحو المخيم”. إحدى المرات أمسك عناصر دورية أمن بعمر ونقلوه إلى سيارتهم. مزحوا معه واخذوا منه علبة محارم وسألوه عن قريته في سوريا. ثم انتهى الأمر بأن ضربه أحدهم على رقبته قبل أن ينزلوه من السيارة موصين إياه “لا تتزعرن”. من يومها وعمر يبتعد عن حافة الطريق ما إن يرى سيارة للأمن تقترب.

يتحدث الأطفال العاملون في الطرقات عن تجارب شتى يتعرضون لها. هناك من السكان المحليين من يزجرهم، وهناك من يتعاطف معهم ويجلب لهذا الطفل أو ذاك حذاءً أو معطفاً. في المقابل لم يتحدث أحد من هؤلاء الأطفال عن أي تعاطٍ معهم من قبل عاملين اجتماعيين لتحسين وضعهم. تقول متطوعة في مجال الدعم النفسي للأطفال في مخيم شاتيلا، رفضت الكشف عن اسمها، إن في حالات محدودة يسلم الدرك الأطفال الذين يوقفونهم إلى مدرسة حيث يبقون في حال لم يتعهد الأهل بمنعهم عن العمل. تضيف المتطوعة: “جاءتنا أم تغالب دموعها وقد اعتقدت أنها لن تستطيع إسترجاع ابنها. اتصلنا بالمختصين وعاد الطفل إلى عائلته بعد التعهد بتسجيله في مدرسة وتجنيبه العمل”.

عمالة الأطفال اللاجئين تحرمهم حقوق أساسية وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كحق التعليم والحق في السلامة. ولكن لا تبدو هذه المشكلة قابلة للحل في المستقبل المنظور، لا سيما وأن عمالة الأطفال مشكلة ليست جديدة في لبنان وليست مرتبطة بوجود اللاجئين السوريين. يحاول سمير أحياناً الضغط على أولياء الأمور كي يدفعهم إلى تسجيل أولادهم في المدرسة، معتقداً أنه قد يمكنهم الإستغناء عن عمل الطفل في بعض الحالات. لكنه يقر في الوقت نفسه أنه لا يملك وسائل للتعاطي مع حالات مشابهة. ويروي سمير ما قالت له إحدى الأمهات التي حاول إقناعها بتسجيل ابنها في المدرسة بدل أن يعمل “لقد صرخت: في سوريا نُقصف ونموت، وهنا نكاد يومياً ننام جوعى فارغي البطون، كيف لي أن أوقف ابني عن العمل لأسجله في مدرسة؟ هل تعتقد أنني مسرورة بحرمانه من المدرسة؟”.

*اسم مستعار لصحافي سوري.