إلى أين نرحل بعد إدلب؟

مجموعة من النازحين ينتظرون فجراً أمام سكة القطار في اليونان - تصوير أحمد الخليل

مجموعة من النازحين ينتظرون فجراً أمام سكة القطار في اليونان - تصوير أحمد الخليل

"هل سنرحل و إلى أين؟ سنترك المدرسة؟ هل سنعود إليها بعد حين؟ هل سيدخل النظام ويعفش أغراضنا؟ هل سيرحل أصدقاؤنا معنا ؟ هل نستطيع حمل ألعابنا أم سنتركها كما تركنا غيرها؟ "

بعبع التهجير يعود من جديد بعد أن غاب عن المهجرين بعض الوقت. بعد عامين على وجودنا في الشمال السوري بعد تهجيرنا من الغوطة الغربية لدمشق، يخيم خبر ضرب إدلب بثقله على أهلها. ولكن ثقله على المهجرين أشد حيث أنهم يعيشون تحت رحمة النزوح المتكرر.

منسقو الاستجابة في شمال سوريا أفادوا في بيان لهم أن عدد المهجرين من دمشق وريفها فقط، بلغ نحو 83214 شخصاً.
هنا يتحلّق أطفالي حولي بعد سماعهم الأخبار. وتبدأ سلسلة لا تنتهي من الأسئلة والاستفسارات. الصغار لم يتمتعوا بعد بنعمة الاستقرار فهم الفئة الأشد تأثراً بهذه الحرب. لا يكاد الواحد منهم يتعلق ببيته الجديد وحيه ومنطقته ويتعرف على أصدقاء جدد في مدرسته الجديدة، حتى يفجع بفقدهم بين ليلة وضحاها.
كانت أسئلتهم عبارة عن: هل سنرحل و إلى أين؟ سنترك المدرسة؟ هل سنعود إليها بعد حين؟ هل سيدخل النظام ويعفش أغراضنا؟ هل سيرحل أصدقاؤنا معنا ؟ هل نستطيع حمل ألعابنا أم سنتركها كما تركنا غيرها؟
ثم يعلو صراخهم: “لا نريد المغادرة. لا نريد الرحيل مجدداً”. لكنهم كما في كل مرة لمجرد سماعهم صفارة الإنذار، ثم صوت الطائرات الحربية، وبأقل من دقيقة، تراهم يتكمشون بأطراف ثوبي ويخفون وجوههم به، فزعين ثم يصيحون صيحة واحدة:” أمي لا نريد البقاء هنا”.
يتزايد الحديث عن اقتحام محافظة إدلب، ويزداد يقيننا بأن التهجير آت لا محالة. هنا حيث كانت وجهة ترحيل عناصر التنظيمات المصنفة إرهابية، بالإضافة إلى وجود المعقل الرئيسي لتنظيم هيئة تحرير الشام الذي تُشكّل جبهة النصرة عموده الفقري. إدلب التي تجمع التقارير الصحفية أنها ستكون هدف النظام بعد درعا.
لم أجد شبيهاً لحالنا في إدلب هذه الأيام إلا خراف العيد التي تنتظر بهدوء يوم المسلخ. ما أشبه عيد الأضحى هذا العام بعيد الأضحى منذ عامين. نعم وما أشبهه بعيد الأضحى قبل ستة أعوام أيضاً. فقد كان العيد موعداً للتهجير.
لقد أعادت إلي هذه الأيام ذكريات ذاك اليوم الذي تركت فيه بيتي قبل ستة أعوام في مدينة داريا. وقتها لم أكن أعلم انه آخر عهدي به. لكني كنت آخر من خرج منه. كان مصب القهوة ما زال دافئ الصدر، مستعدا لاستقبال المعايدين بجانب أطباق الحلويات التي لم تحظ بمن يرفع عنها الغلاف.
كنت أتأمل كل زاوية فيه جدرانه وسقفه وأرضه وأجول بناظري في حديقته وأشجارها. أذكر أن ابنتي طلبت مني حبة الليمون الوحيدة المتبقية على غصن الشجرة، فأخبرتها أن الشجرة الأم ستحزن ولن تثمر في الموسم القادم … كانت تلك الساعة هي الأخيرة لي في منزلي.
كان الجميع يستعجلون خروجي فالقصف لا محالة سيبدأ قريباً، وعلينا الابتعاد عن هذه المنطقة فهي المستهدفة هذه الأيام. أسرعت أخيراً وعند باب الدار حيث جذع الياسمينة، إتكأت لأمسك بأكياسي فاهتز الجذع وتساقط علي من زهورها كما ندف الثلج. وأحسست بشعور غريب يجذبني إليها، أمسكت الجذع بقوة وكأني أوصيه بالثبات والصبر. إنه الوداع، حملت ما استطعت من زهورها وخبأتها في دفتري، ثم خرجت.
وبعد يوم من خروجنا أصبح بيتي بمرمى القناص. ولم استطع العودة اليه رغم وجودي في المدينة محاصرة لأربعة أعوام. نعم كانت الليمونة كما أخبرت ابنتي تشعر بالألم لفقد الحبيب مع أنها لم ترنا منذ ذلك التاريخ إلا أنها و بعد ستة أعوام من بعدنا عنها لم تنس لي معروفي فقد بقيت على العهد خضراء باشقة تعانق بأغصانها ياسمينة الدار وتننتظران معاً عودتنا. فهما فقط ما بقي في بيتنا.
لكن ما علاقة العيد بالتهجير؟ أهي مجرد مصادفة؟ لعلها مصادفة ولعلها رسالة من جلادنا ممهورة بأختام حكام العالم أننا لانستحق الفرح والسرور. نحن من علمنا الإنسانية معنى الوقوف بوجه الظلم والاستعباد. والله لو لم تكن التطير محرماً لتشاءمت من مجيء العيد.
ومع كل عيد وتهجير قسري يكون السؤال الأهم: ما مصير مئات آلاف المدنيين المهجرين؟ إلى أين الوجهة هذه المرة وهل من إدلب أخرى نرحل إليها؟ كيف سنعيش ونتدبر أمرنا وكيف ستكون حياتنا في منفانا الجديد؟ وكيف يستقبلنا المضيفون الجدد؟ وهل من أحد يلقي لنا بال بعد أن تخطّى عددنا الملايين؟
هذا ما ننتظر الإجابة عليه من الأيام القادمة. لأن التهجير هو قذف إلى المجهول ولن تستطيع التكهن بما بعده.
سارة محسن (50عاماً) من من الغوطة الغربية لمدينة دمشق. تحمل شهادة جامعية كانت تعمل مديرة مدرسة. متزوجة ولها 6 من الأبناء.