أم نزار تتحدى القدر قبل الثورة وبعدها

إمراة طاعنة في السنة تلاحق سيارة الأطفاء في حي العامرية لمحالة الحصول على المياه بسبب انقطاعها عن المدينة. تصوير: صلاح الأشقر

كنت دائما أرسم في خيالي مستقبلي القادم كما تفعل جميع الفتيات وهن في مقتبل العمر، وأنني سأعيش حياة جميلة ملؤها الحب والأمان.
أنا أم نزار من أهالي مدينة كفرنبل في ريف إدلب،أبلغ من العمر تقريبا 57عاماً، أعيش مع أولادي في المنزل الذي حملت حجارته على رأسي انا وزوجي ..
أريد أن أروي الاحداث القاسية التي مررت بها، والتي بدأت بعد عدة سنوات من زواجي. حينها كان لدي من الأولاد خمسة، أربعة صبية وبنت. يعمل زوجي في سلك الشرطة، والأحوال جيدة إلى أن بشّرتني الطبيبة بالتوأم الذي أحمله في أحشائي. كانت فرحتي لا توصف حينها، لكنها لم تكتمل لأنني صدمت بخبر زلزل كياني. كنا في العام 1985 حين أصيب زوجي بمرض خبيث وهو سرطان الدم.
غيّر هذا الخبر كل حياتي. جعل أبيضها أسودا. ولكن الحياة ستستمر. أكملت حملي وأوشكت على الولادة . وبالفعل أنجبت التوأم وأنا في حالة يرثى لها. ابنتان لا ذنب لهما بما حصل مع أبيهما، ولكنني أحيانا كنت أحدّث نفسي وأقول ليت البنتان تموتان ويبقى زوجي بصحته. القدر قال غير ذلك، فبعد بلوغ التوأم الخمسة أشهر بدأت حالة زوجي تزداد سوءا يوماً بعد يوم. كان يساندني في هذا الموقف الصعب أهل زوجي وأهلي، إلى أن سلّم روحه للبارئ، وتركني أصارع الحياة وحدي، مع ابنتين صغيرتين وخمسة أولاد غيرهم ينتظرون من يشعرهم بالأمان والحنان …
حاولت جهدي أن أربّي اولادي دون أن يشعروا بأي نقص لغياب أبيهم. كان رأس مالي قوة شخصيتي التي منحتني الشجاعة والقوة للاستمرار في هذه الحياة. عملت في الأراضي الزراعية مقابل أجرٍ أجنيه لأولادي. في موسم الزيتون كنت أعمل في قطافه، أما في فصل الصيف كنت اجفف الفليفلة وأصنع رب البندورة وأبيعها.
لولا هذا لما استطعت الاستمرار. الراتب التقاعدي الذي تركه زوجي لا يكفي لسبعة أولاد. الحق يقال لم يتركني أهلي وأهل زوجي، ولكنني أحب الاعتماد على نفسي لإيجاد لقمة عيشي أنا واولادي …
مرّت السنون والأيام، كبر الأولاد. أراد ولدي البكر وأخاه الذي يصغره بسنة ونصف أن يتقدما لسلك الشرطة، فهما لم يكملا تعليمهما وقد اختارا الطريق الاسهل لحياتهما. وبالفعل توظفا وشيئا فشيئا بدأت الأمور تتحسن. تزوجا واصبح لديهما أبناء.
بقيت الأحوال هكذا حتى جائني الخبر الذي قسم ظهري. في العام 2003علمت أن أغلى أولادي على قلبي مصاب بنفس المرض الذي توفي نتيجته والده. كنت أراه يوميا يذبل شيئا فشيئا وتذبل معه حياتي الذابلة أصلا بعد وفاة أبيه…
بذلت في سبيل شفائه كل ما لدي ثمنا للجرعات التي كان يأخذها، ولكنه لم يصمد طويلا. في 2005 ودّع الحياة وهو في عز شبابه وودعت معه الفرح والسعادة. ترك وراءه بنتين صغيرتين بحاجة للتربية والنفقة، وأنا المسؤولة عنهما لأن الأم آثر أهلها أن تتزوج من جديد.
الراتب التقاعدي لولدي أسعفني كثيراً، دائما كنت أقول الحمدلله .
ولدي البكر كان يسكن مع عائلته المكونة من خمسة أولاد في أحياء ريف دمشق.
أما أنا فبقيت مع أولادي وبنات ولدي المتوفي بعد أن زوجت أختهم الكبرى. لم تكن أوفرحظاً من أمها، فبعد عدة سنوات من زواجها انفصلت عن زوجها وآل بهما الحال إلى الطلاق. ها هي تسكن عندي مع أولادها الصغار، تعمل في صف لوحات الفسيفساء لتجني رزقها ورزق اولادها.

وهكذا بقيت الأيام تسير حتى العام 2011. ومع اشتعال الثورة السورية التي غيرت مجرى حياتنا جميعا، كنت متحمسة جداً، وأطالب كما يطالب الكثيرون بإسقاط النظام. لم أكن أدري أن هذه الكلمات سأدفع ثمنها كثيراً.

أذكر موقفاً حدث معي عند تواجد قوات النظام في بلدتنا يشعرني بالفخر. قمت بشيئ أرفع به رأسي حين تطأطأ الرؤوس. فقد أنقذت شاباً من براثن العساكر. كانوا يقتادونه إلى داخل الدبابة وهو يستغيث، لم يجرؤ أحد على الاقتراب، ركضت اليهم ولم أتراجع حتى عاد الشاب معي.

لكن الثورة طالت، ووصلت أمواجها إلى ولدي البكر الذي اقتاده أحد حواجز الجيش. أحسّوا انه يريد الانشقاق أو بالأحرى (كتب فيه أحدهم تقريراً ما) ولا نعرف له أثراً حتى يومنا هذا.

ماذا اقول ؟

الخد تعود عاللطم (الوجنة التي تعوّدت الصفعات).

عندما عادت زوجته وأولاده إلى كفرنبل، لم يحملو معهم سوى بعض الملابس، تاركين وراءهم بيتاً يحوي كل مايلزم للعيش. بساعة راح البيت وصاحب البيت، ولكن الله موجود لاينسى عباده. تبرعت لهم إحدى الجمعيات الخيرية براتب شهري يسترهم من ذل السؤال، مع بعض المساعدات الانسانية من هنا وهناك …
تمتلئ عيناي بالدموع الحارقة عندما ارى بنات ولدي المتوفي، واولاد اخيه المعتقل ينظرون بعيونهم البريئة، ينتظرون مستقبلاً أفضل من الحاضر الذي يعيشونه.

أحاول دائما أن أخفي أوجاعي و وهمومي وراء ابتسامتي. أقول لهم ماحدث معنا ليس بذنبي ولا بذنبكم، هذا مااختاره القدر فالحمدلله على ما اختار لنا.