أشجار الزبداني ضحية القصف والحصار

 كان مزارعو الزبداني يصدّرون محاصيلهم إلى جميع المناطق السورية وإلى الخارج. أما اليوم، فحتى أسواق المدينة باتت خالية من التفاح والكرز والدراق والفواكه الأخرى التي كانت تملأ الأسواق في مثل هذا الوقت من السنة. عمر (35 عاماً)، هو مزارع لم يرَ أرضه منذ ما يزيد على السنة تقريباً. ويعتقد عمر أنه إذا ذهب إليها فسيكون عرضة للاعتقال على الحواجز العسكرية المحيطة بالمدينة أو للاستهداف بالقذائف التي يطلقها الجيش النظامي المتمركز على سفوح الجبال.

تقليدياً، يعتمد غالبية أهالي الزبداني، الذين يبلغ عددهم ثلاثين ألف نسمة، على الزراعة كمصدر أساسي لدخلهم، وبحسب بعض التقارير 80 في المئة من أهالي المدينة يعتاشون من الزراعة وكانت السياحة قبل بدء الأزمة أيضاً مصدراً أساسياً للدخل. وتعود أصول أهل المدينة التاريخية إلى العرب الآراميين الذين هاجروا من الجزيرة العربية. وكلمة الزبداني ذات أصل أرامي كانت على صيغة زابادوناني ثم نقلت إلى اليونانية باسم زابادوني وتعني لب الخير وهذا الاسم مقدس عند الآراميين وكان على اسم أحد آلهتهم وهو زبدئيل. وترجع بعض المصادر إلى تسمية الزبداني على اسم آلهة التفاح عند اليونان وهو زبدون. الزبداني التي تتبع لمحافظة ريف دمشق تقع على بعد 45 كيلومتراً شمال العاصمة، تعتبر من أشهر المصايف السورية والعربية لجمال طبيعتها وبرودة جوها في الصيف. وتتمركز الزراعة في سهل الزبداني الذي تقدر مساحته بآلاف الهكتارات وسفوح الجبال المحيطة بالمدينة. وكانت منطقة الزبداني تعتبر الأولى في سوريا بإنتاج التفاح والإجاص والدراق والكرز.

أحد مزارعي الزبداني يعمل في بستان التفاح الذي يملكه  أشجار الزبداني ضحية القصف والحصار
أحد مزارعي الزبداني يعمل في بستان التفاح الذي يملكه 

يتأثر القطاع الزراعي بالمواجهات العسكرية بين الجيش النظامي والمعارضة المسلحة في المدينة. وقد شهدت الزبداني أولى المظاهرات التضامنية السلمية مع درعا في آخر آذار/ مارس 2011.  وكان المتظاهرون حينها يتغنّون بتفاح بلدتهم ويصرخون “تفاح الزبداني ما بيهاب الدبابة”. في صيف العام نفسه اقتحم الجيش النظامي المدينة لأول مرة، ثم انسحب منها ليعيد الكرّة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2011. وشهدت المدينة الاقتحام الأخير في شباط/ فبراير الماضي. ويحاصر الجيش النظامي حالياً المدينة ويضرب يومياً “زبداني البلد”، الجزء القديم من الزبداني، حيث تتمركز الكتائب التابعة للـ”جيش السوري الحر” وهي “أحرار الشام” و”شهداء الحق” و”حمزة بن عبد المطلب”، وتتكون هذه الكتائب بمعظمها من الشباب المحليين.

كثير من المزارعين كانوا يصرون على الذهاب إلى أراضيهم، لتفقدها ورعايتها، رغم مخاطر الاعتقالات على الحواجز. صلاح الدين برهان ( 73عاماً) كان ذاهباً إلى حقله في منتصف أيار/ مايو 2012، فتم توقيفه على حاجز العقبة شمال المدينة من قبل جنود الجيش النظامي الذين أبرحوه ضربا حتى توفي على الحاجز، وقد اُعتقل ابنه محمد في على هذا الحاجز أيضاً حينما ذهب لاستلام الجثة وما يزال مصيره مجهولاً حتى الآن، حسب لجان التنسيق المحلية في مدينة الزبداني.

أما عدنان (64 عاماً)، فقد توفي بسبب الحزن الشديد الذي أدى إلى تدهور حالته الصحية بعد الإصابة بمرض السرطان، وذلك إثر تجريف الجيش النظامي مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ومن ضمنها حقوله المغروسة بالأشجار خلال اقتحام المدينة في شباط/ فبراير 2012، بعد أن أغلقت كتائب المعارضة المسلحة المداخل والطرق الرئيسية.
وتقول منى ابنة عدنان (21 عاماً): “منذ أربع سنوات اكتشفنا أن أبي يعاني من السرطان، ولم تظهر عليه أعراض المرض إلّا حين دهست الدبابات الكثير من أشجار حقلنا فمات قهراً بعد عشرين يوماً من ذلك”.

الأرض والأشجار بالنسبة للفلاحين وعائلاتهم هي أثمن ما يملكون، فإذا تضررت ضاعت ثمار عمل دام لسنوات طوال، ويقول المزارع عمر: “لا تثمر الأشجار بين ليلة وضحاها. شجرة التفاح مثلاً تحتاج لما يقارب العشر سنوات حتى تكبر وتصبح ذات مردود، وبالتالي إن ماتت فسيتطلب ذلك من الفلاح عمراً آخر لرؤيتها تثمر من جديد”. ويعتبر عمر أن هذا ما يدفع الفلاحين للمخاطرة بحياتهم، وتحّمل الإذلال الذي يمارسه عليهم العساكر عند الحواجز المتمركزة على طريق حقولهم، لتجنب خسارة سنوات قضوها في رعاية أشجارهم.

ولا توجد أرقام تشير إلى حجم الأضرار المادية التي شهدها القطاع الزراعي في سوريا منذ إندلاع الثورة في في آذار/ مارس 2011، وفيما كان القطاع الزراعي في سوريا يساهم بنحو 25 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي، ويشكل قرابة 22 بالمئة من مجمل الصادرات، إذ كانت تعتبر سوريا رابع منتج في العالم لمادة زيت الزيتون، ورابع منتج للفستق الحلبي، وكانت من الدول المتقدمة في إنتاج الخضراوات ومشتقات الحليب، الذي تنتج منه قرابة 3 ملايين طن سنوياً، أصبحت في خطر مواجهة كارثة غذائية بحلول العام 2014 بحسب منظمة الأمم المتحدة.

فقدت نور علاء الدين (13 عاماً)، عائلتها في شباط/ فبراير من هذا العام جراء سقوط قذيفة استهدفت الحقل حيث كانوا. وتقول نور: “استيقظنا صباحاً أنا وأخي وأمي كي نذهب مع أبي إلى السهل ونساعده في قطاف الملفوف الشتوي. ما إن وصلنا حتى أودت قذيفة بحياة أبي وأصابت أمي بجروح. قالت لي أمي بأن احضر الهاتف لكي اتصل بمن يسعفنا فوراً. لم تكمل الجملة حتى نزلت قذيفة ثانية أودت بحياتها وحياة أخي. وأصبت أنا بجروح بسيطة وواصلت الزحف للبحث عن أحد يساعدني. وما إن لاح لي شخص في الأفق حتى نزلت قذيفة أخرى وتطايرت جثته أمامي أيضاً”.

بعد مقتل عائلة نور لم يجرؤ أحد على الذهاب إلى السهل أو الجبل مجدداً. وعمد وجهاء المدينة، أي الرجال الكبار في السن من كل عائلة وهم أهل ثقة من قبل الأهالي، إلى التفاوض مع الجيش النظامي للوصول إلى هدنة محدودة، يتوقف خلالها النظام عن القصف مقابل توقف “الجيش الحر” عن مهاجمة حواجز النظام المحيطة بالمدينة، وذلك لتخفيف الضغط على المدنيين ولإتاحة الفرصة للمزارعين العمل في حقولهم.
استمرت الهدنة شهراً كاملاً ابتداءً من 14 أبريل/ نيسان 2013 إلى أن تم خرقها بتاريخ 14 أيار/ مايو. يقول فارس محمد، عضو لجان التنسيق المحلية في مدينة الزبداني: “عادت الهدنة بالضرر أكثر من النفع على الفلاحين. فبعد أن اشتروا خراطيم لري المزروعات، خُرقت الهدنة فخسروا المال وخسروا أراضيهم”.

ويشير المزارع محمود إلى أن الجيش النظامي الذي يحاصر الزبداني يعتمد حالياً سياسة جديدة كوسيلة للضغط على الأهالي وإجبارهم على طرد كتائب “الجيش الحر” من مدينتهم ألا وهي حرق الأراضي الزراعية. محمود الذي رأى الأراضي المحروقة، أصبح يقاتل ضمن كتيبة تابعة للجيش الحر ويتسلل ليلاً إلى الجبال.

يعيش الكثير من المزارعين وعائلاتهم من مدخراتهم مثل المزارع عمر الذي يقول: “ما يزال أهالي الزبداني يحتفظون بالعادات الريفية القديمة التي تقوم على الاحتفاظ بقرشهم الأبيض ليومهم الأسود”. هي العادات القديمة التي وفرت عليهم مد اليد طلباً لعون أو مساعدة، كما بدأ العديد من سكان المدينة، في ظل الحصار والقصف العنيف باستغلال حدائق منازلهم شبه المدمرة، فيبذرونها ويربون فيها الماعز والبقر.