أخي مات ولم يستشهد
في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2013، كنت في زيارة لبيت خالي ألاعب طفلهم ذي الستة أشهر عندما رن الهاتف. وإذ بخالي بعد الاتصال الهاتفي، يطلب مني العودة إلى منزل أهلي لاستقبال الضيوف.
وصلت لأجد أمي باكية تلطم وجهها وتخبرني أن أخي توفي .
بين لحظة وأخرى امتلأ بيتنا بالجيران. كنت أنظر إليهم من بعيد. الجميع يأتي ويذهب. تم وضع الكراسي في المنزل.
مرّت أيّام العزاء عليّ كمن يشاهد فيلما سينمائيا من بعيد، أهلي يختلفون على موقع القبر الذي لم يفتح ولا حتى بعد مرور أكثر من عام. لم يأتِ جثمان أخي حتى هذه اللحظة. بحسب ما أبلغتني صديقته “قنصوه ومات… لم يتمكن أصدقاؤه من سحب جثته”. أصدقاؤه الذين يزورون البيت كل مساء، يجلسون بصمت وعيونهم تنظر في الفراغ.
أناس غرباء يحتلون بيتنا، يتحركون ويتكلمون بثقة حول قصص وحكايات حدثت مع أقربائهم أو أقرباء أقربائهم أو شخص تعرف على ابن جار عمتهم. قصص جعلتني أرغب بطرد كل من في المنزل حتى أهلي والبقاء وحيدة .
وأنا ……
لم استطع البكاء. أخي دودو، صديقي رفيق دربي وطفولتي، سندي. الوحيد الذي أجرؤ على السباحة في عمق البحر معه، لأني واثقة أنه الوحيد الذي سيهتم لسلامتي أكثر من سلامته. لم تنزل لي دمعة، بعضهم أنّبني وصرخ بوجهي أن أبكي، ولو أمام الناس لأن “الناس بتحكي “. بعضهم قال: “جنّت المسكينة، كانت قريبة جداً من أخيها”. آخرون قالوا أني سعيدة لمقتله، إذ أنهم يشكون في ولائي لوطنهم.
سمعت عن وجود فيديو يصوّر مقتله. قضيت يومين أبحث عنه حتى وجدته. كان أخي ممدداً على الأرض وكأنه يغط في نومه، يحيط به مجموعة من الرجال يتحدثون عن الله والوطن والشبيحة. في تلك اللحظات لم ادرِ لماذا يجب أن أحقد على هؤلاء أكثر من الذي نزع كتاب أخي من يده، وحمله بندقية ورماه في المجهول.
أخي لمن لا يعرف أخي، الوجه الباسم صاحب الغمازة اللعوب. الشاب الذي يقضي أيامه في العمل والدرس. هو ابني الذي بكى على كتفي أيام المحن التي واجهتنا. صديقي الذي عرف كيف يجعل مني “أخت الرجال”. الصدر الحنون الذي يعرف كيف يضحكني في قمة حزني وانزعاجي. الأب الذي أعود له عندما تواجهني مشاكل لا أقدر على حلها. حبيبي الذي أغار عليه من فتاة مارقة تختار أن تناديه دودو كما افعل أنا. أخي هذا لم تأخذه رصاصة القناص فحسب، أخذوه منا عندما كان يتضور جوعا ويفطر في شهر رمضان على كاس ماء. أخذوه منا عندما كان الموت يخطئه بفارق لحظة أو خطوة. أخذوه منا عند أول رصاصة أطلقها من بندقيته. أخذوه منا عندما أصبح حديثنا يقتصر على جملة انتبه لنفسك. عندما صرت لا إراديا أوثق رحلاتنا بالكثير الكثير من الصور، لإحساسي الدائم إنني سأفقده في أحد الأيام. تمنيت لو أنه يهرب من خدمته العسكرية، وطلبتها منه مراراً وتكراراً. “لا تعد إلى حلب إبق هنا وليحصل ما يحصل”. كان دائما يجيبني “نحن مجموعة من المجرمين نقتل بعضنا”.
أسأله من أفضل انتم أم هم؟ يجيبني ضاحكا: هم.
مرت آخر سنتين لم نفتح خلالها أي حديث سياسي يتخطى الجملتين. ربما لعلمنا بالنهاية الوخيمة للموضوع، إذ وجد تواطؤ بيننا جعلنا نبتعد تلقائيا عن أي حديث قد يجرنا إلى جدل.
وفي نهاية المطاف، مات أخي. تمنيت أحيانا كثيرة أن استطيع بيني وبين نفسي أقول استشهد. ربما لأخفف من مصيبة فقده أو أن أجد سبباً مقنعا مات في سبيله.
ولكني أختنق دون أن أستطيع قولها. فأخي مات ولم يستشهد. أخبرونا انه استشهد ليعطوا فخامة وقدسية للحدث. ليعطوا الموت مباركة إلهية.
لا فرق عندي بين موته وبين الأضاحي البشرية التي كانت تقدم قربانا للآلهة الساخطة في عصور غابرة. فهنا أخي قدم أضحية بشرية في سبيل شبح قضية ربما حتى هو لم يدرِ ما هي.