هل تسبح الثورة السورية في فلك المدنية أم المدارات الإسلامية؟
ضمن المحاولات المتكرّرة لإلباس الثورة السورية العمامة الإسلاميّة وزجها في سجالٍ طائفي، بتنا نرى اليوم نوعاً من الإرباك السياسي يثقل كاهل المعارضين حول دور الأحزاب الإسلامية المتمثلة بجماعة “الإخوان المسلمين” وتأثيرها على الحراك الثوري، ومستقبل هذه الأحزاب والتيارات في مرحلة ما بعد الأسد. فالمعارضة السورية مازالت تتأرجح بين فكيّ العلمانية والإسلام السياسي، محاولةً إمساك العصا من المنتصف، ولاسيما بعد فوز التيارات الإسلامية في الانتخابات التشريعية في مصر وتونس والمغرب. فعندما نقوم بوضع النتائج التي آلت إليها هذه الانتخابات تحت المجهر، نرى أن الإسلاميّين امتطوا موجة الديمقراطية، وكأنها حصان طروادة للوصول إلى سدة الحكم.
فعلى الرغم من أنّ هذه الأحزاب قد نزلت إلى الشارع وصعدت السلم الديمقراطي من خلال صناديق الإقتراع، إلا أنها تحاول في بعض الأحيان تحييد الديمقراطية؛ فالديمقراطية تعني تطبيق الدولة المدنية وضمان حرية المعتقد. غير أن التطورات الثورية في مصر وتونس، برهنت مدى عجز هذه الحركات الإسلامية عن اتباع سلوك مدني بحت. فيحاول الإسلاميون السلفيون في تونس مثلاً التفريق بين الطلاب الإناث والذكور في الجامعات وعدم السماح للنساء بتدريس الرجال. وفي مصر، ظهرت دعواتٌ لإقامة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ومطالباتٌ متكررة تحض على عودة النساء إلى البيوت. وكنتيجة لتصاعد مزاج الإسلام السياسي في دول الربيع العربي، بتنا نتلمّس تخوفاً سورياً وقلقاً يبديه الكثيرون من احتمال وصول أحزابٍ إسلاميةٍ إلى دفّة الحكم ما بعد الأسد، ومن ثم أسلمة السلطة وتسييس الدين.
وكان من أبرز تجليات الخطاب الإسلامي دعوات لتسمية إحدى جمع الثورة السورية “بجمعة الجهاد” أو “جمعة الغضب الإسلامي”، مما أثار جدلاً بين أطياف المعارضة السورية حول مدى ثقل التيّارات الإسلامية وهيمنتها على الحراك الثوري. وعبّر العديد من المثقّفين والناشطين على صفحات المواقع الاجتماعية رفضهم القاطع لمثل هذه التسميات، وذلك لاقتصارها على فئةٍ محددةٍ من فئات الشعب السوري. وهنا ارتفعت أصوات المعارضة مطالبةً باعتماد تسميةً فضفاضةٍ تتسع لجميع الأطياف السورية. فتكررت الدعوات لنبذ تسمية “الجهاد” والركون إلى إسم “جمعة سورية التعدّدية المدنية”. وهذا ما دفع الإدارة المسؤولة عن صفحة “الثورة السورية ضد بشار الأسد” إلى إصدار توضيحٍ عن فكرة الجهاد وغيرها من التسميات. وكان عدم الأخذ “بجمعة الجهاد” أكبر برهانٍ على أنّ الشعب السوري يرفض اللهجات الشعبويّة الدينيّة.
إتضح اليوم للعيان أن هناك صراعاً بات يقطع أوصال المعارضة السورية حول المستقبل السياسي للبلاد. ولكن مما لاشك فيه أن الحلول سترسو على شواطئ الدولة المدنية التي تقيم توازناً لكافة الشرائح المذهبية، فسورية ليست كمثيلاتها من دول الربيع العربي. هناك بالفعل تيّار إسلامي وله دورٌ على الساحة السياسية، ولكنه لا يمثل سوى جزءٍ من الكل السياسي المتنوع. والسلوك السياسي للحراك الإسلامي الإخواني المتربّع على محافل المجلس الوطني السوري، والذي يعد من أهم القوى السياسية المنضمة والمؤسسة للمجلس، مازال معتدلاً، وهو بعيدٌ عن المعنى السلفي أو حتى النهج الإسلامي التعصبي. توجد أيضاً معطياتٌ على أرض الواقع تثبت مدى عمق الرؤية الثوريّة وميلها الشديد نحو تبنّي الدولة المدنية في مرحلة ما بعد الأسد، حيث أنّ كفة الميزان على مستوى الحراك الشعبي مازالت ترجح “لهيئة التنسيق الوطنيّة لقوى التغيير الديمقراطي”. وتتكون الهيئة من شبابٍ مثقفٍ ونشطاء المجال العام، ومن سياسيّين وحقوقيّين، وأحزاب علمانية وقومية وماركسية، وممثلين عن جماعاتٍ إسلاميةٍ معتدلة، وأحد عشر حزباً كردياً ذا طابعٍ قومي أو علماني، بالإضافة إلى تشكيل العديد من الحركات السياسيّة التي تأخذ الطابع المدني وتؤكد ضمن برامجها السياسيّة المعلنة أنّ الحلّ هو اعتماد الدولة المدنية. ومن هذه الحركات “تيار بناء الدولة السوري”، “إئتلاف اليسار السوري”، “تجمّع نبض للشباب المدني السوري”، “حركة معاً”، “رابطة العلمانيّين السوريّين”، مما يعني أنّ الحراك الشعبي قوامه تجمّع من مختلف المشارب والإنتماءات الفكرية. وبالتالي فإن سورية تشهد قوس قزحٍ من الأحزاب، ومن بينها الأحزاب الإسلامية، التي تمثل أحد اللاعبين في المجرى السياسي. ويكفي أن نتذكّر الشعارات التي يرددها المتظاهرون ومنها “لا سلفيّة لا إخوان ثورتنا ثورة شباب” لتبرهن الثورة عن مدى التزامها بالنهج المدني.
وفي سياق النقاشات التي تعتلي الصالونات السياسيّة، أصبحنا نرى أنّه توجد عدة آراءٍ تسود هذه النقاشات. فالبعض بات مقتنعاً بوصول التيّارات الإسلامية إلى سدة الحكم ما بعد الأسد، ولكن لفترة انتقالية فقط، وأنّه لاحقاً سيظهر بالممارسة أنّ هذه الحركات لا يمكنها حل المشكلات السياسية والوطنية. وهم يراهنون على ضيق صدر هذه الأحزاب وعدم تمكنها من استيعاب كافة المكوّنات الثقافيّة والمذهبيّة والعرقية، ويصرّون على أنّ هذه الجماعات مصيرها الفشل لا محال، ومن ثم تسقط هذه الأحزاب ليأتي عوضاً عنها الأحزاب الليبراليّة والعلمانيّة واليساريّة بدعمٍ جماهيري. بينما هناك رأي يقول إنه لا ضرر من وصول الحركات الإسلامية إلى الحكم، بل علينا أن نمنحها الفرصة السياسية، ولكن بشرط أن تتبنّى النموذج التركي، أي الركون إلى الإسلام المعتدل، مما سيخدم الديمقراطية ويحقّق المدنية. ويرى فريقٌ آخر أنّ هذا الطرح لفكرة تولّي الإسلاميّين القيادة هو من باب الدعاية فقط لمواجهة التغيير الديمقراطي.
ولو افترضنا أنّ تياراتٍ إسلاميةً استطاعت تولي الحكم ما بعد الأسد، فهل ستتربع على عرش السلطة ببساطة دون أن تخضع لسيف الرقيب الجماهيري، المتمثل بالحراك الشعبي الذي نزل إلى الساحات، وبالعديد من الناشطين ذوي الصبغات الفكريّة المتعددة، ورقابة الطوائف السورية التي تنشد إقامة حكومة تحفظ حرياتها الدينية؟ توجد مجموعةٌ من التحديات ستلقي بظلالها على الأحزاب الإسلامية، وأهمّها التحدي الإيديولوجي الذي يتمثل في قدرة هذه الأحزاب على استيعاب التنوّع الثقافي والقومي والديني في سورية، والإقرار بحق المواطنة الذي يعني حرية المعتقد مهما كان. إنّ هذا التحدي يحتاج إلى عقول ناضجة سياسياً، تمتاز برؤية عصرية لطبيعة المجتمع السوري، وطبيعة التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تشهده سورية.
من الإنصاف القول إنه على الرغم من التخوّف الذي يعتلي صدور المعارضين ويعكر صفو الأجواء السياسية الثورية، إلا أنّنا لم نسمع أيّ دعوةٍ صريحةٍ من هذه التيارات لتطبيق الشريعة الإسلامية أو إقامة دولة إسلامية، حيث أنّ أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” السوريّين مازالوا حتى الآن يتبنّون خطاباً معتدلاً، محاولين توحيد الصف مع باقي أطياف المعارضة، ومعلنين عن تمسكهم بالدولة المدنية. وبالنهاية، فإنّ القرار السياسي لن يكون بيد أيّ حزب بل الإنتخابات هي التي ستحدد من سيحكم البلاد لأربع سنواتٍ قادمة.
وأخيراً، لابدّ من التذكير بأنّ الثورة في سورية لم يحركها تجمع ولا حزب؛ الثورة السورية ولِدت من رحم الظروف التي عانى منها الشعب السوري، فلم يعد بإمكان أيّ حزبٍ أو تكتل السيطرة على عقول الآخرين. فالضامن الوحيد لعدم زج الديمقراطية في سجال طائفي، هو ثقافة الثورة السورية نفسها، والتي احتضنت جميع المذاهب والأحزاب، وعبرت بنفسٍ واحد أنّ الشعب السوري واحد.