في الرقة لا شيء سوى الدموع
إنه منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، خرجت بشرى من المنزل ككل صباح في الساعة السابعة، على وقع زمور أبو سعد سائق “السرفيس”، الذي تعاقدت معه كما غيرها من المعلمات ليوصلهن إلى المدرسة الواقعة في منطقة الكسارات في الريف القريب من مدينة الرقة . صعدت بشرى مع باقي المعلمات في الخلف على الرغم من الازدحام، المقعدان الأماميان فارغان تحسبا لصعود أحد الرجال على الطريق المتوجه إلى نفس المنطقة. ولم تكن بشرى تعلم أن هذا اليوم سيكون مختلفاً عما سبقه. تصوير
بشرى معلمة في المرحلة الابتدائية في الثلاثين من عمرها، أم لثلاثة أطفال وقد أقامت في منزل أهلها بعد سفر زوجها للعمل في تركيا. أصرّت على متابعة عملها هذا قبل أن تقوم “الدولة الإسلامية” بإغلاق جميع المدارس .
كانت أحاديث عديدة تدور بين المعلمات قبل أن تصل السيارة إلى حاجز “الجسر القديم ” القريب من المنطقة حيث المدرسة. جرت العادة أ، يخيم صمت ثقيل يكسره أحد العناصر الملثمين عندما تفقده الأسماء وطرحه بعض الأسئلة وبعد أن ينتهي يقف مقابل الباب الخلفي وينظر نظرة تفقدية حادة غلى المعلمات ثم يغلق الباب ويصرخ ” امشِ”. وعند ابتعاد السرفيس عن الحاجز مسافة مقبولة تحول دون رؤيتها من عناصر الحاجز، طلبت بشرى من أبو سعد أن يتوقف لكي تنتقل إلى المقعد الأمامي، المقاعد الخلفية تصيبها بالتعب.
يتابع أبو سعد المسير، بشرى تلتصق بالنافذة حرصاً على إبقاء مسافة بينها وبينه. تعلق إحدى المعلمات “انتبهي لا تطيري”. تسود موجة من الضحك بين الجميع قبل أن يسمعوا صراخ العنصر نفسه وهو يتجاوز “السرفيس” بدراجته النارية ويجبره على التوقف.
يقول العنصر الملثم : والله و الله، مفكرين مو شايفينكم؟ انزل انت وياها عالسريع.
تتجمد بشرى في مكانها وقلبها يكاد ينخلع من شدة الخوف. أول ما يخطر في ذهنها زوجها الذي حتماً سيطلقها إذا كبرت المشكلة !
يرد عليه أبو سعد: طول بالك يا بني القصة ..
يقاطعه العنصر قبل أن يكمل الشرح: تقربلك شي ؟
يجيب أبو سع: لا والله يا ابني
العنصر: معناتو نخبر “عالحسبة” وهي تتصرف
لم تتأخر سيارة “الحسبة” بالوصول إلى المكان، ورغم سرعة وصولها إلا أن بشرى خلال هذا الانتظار المر كادت تصاب بالإعياء من شدة الخوف والقلق، لا شيء في بالها سوى موقف زوجها إذا علم بما حصل أو سيحصل. يترجل من السيارة عند وصولها شابان ملتحيان، يأمران أبو سعيد بأن يتبعهما إلى مقر “الحسبة” دون أن يستطيع أحد أن يعترض.
تبكي بشرى بشدة على الطريق وشعور بالعجز التام يتملكها ولا تستطيع إلا أن تهمس: يا رب .. يا رب .. يا رب.
عند الوصول إلى مقر الحسبة، أمر أحد الشابين بشرى وأبو سعد بالنزول، البقية بقين في السرفيس لكي تتفقد لباسهن واحدة من “المجاهدات”.
بشرى لا تكاد تسمع شيئاً من حولها، إلّا دقات قلبها وهي تتبع الشاب إلى داخل إحدى الغرف حيث “الشرعي” ومعها السائق .
الشرعي (إشارة إلى رجل الدين) خلف مكتبه، هو رجل أربعيني سعودي الجنسية، يميل إلى السواد وله لحية طويلة يمسدها بيده.
توجه إلى بشرى بالسؤال: هذا الرجل يقربلك.
ترد بشرى بصعوبة وكأن الكلام تجمد في حلقها :لا
الشرعي: ليش تجلسين بجانبه إذاً؟ وأنت شلون تطالعها ما تعرف انها تعتبر “خلوة”؟
يزداد بكاء بشرى بعد سماع هذه الكلمة، وتشعر أنها ضعيفة إلى أبعد الحدود، لا تستطيع أن تدافع عن نفسها.
كلمات أبو سعد لم تجدِ نفعاً عندما قاطعه الشرعي: اخرس.. وأردف آمراً أحد العناصر: خذوه أربعين جلدة بعدين خليه يمشي.
أيقنت بشرى أن العقاب سيطالها، حاولت أن تنقذ نفسها قالت ودموعها تنهمر تحت النقاب: يا شيخ أنا امرأة متزوجة وعندي أولاد والله وكيلك ما أدور غير السترة واللقمة الحلال.
الشرعي: متجوزة ها؟ أعطيني رقم بيتك
بشرى: زوجي مسافر يا شيخ والله إذا عرف يطلقني أبوس يدك
الشرعي: أعطيني رقم ولي أمرك
تعطيه الرقم فيتصل بمنزل أهلها، وقبل أن يأتي والدها يأخذ أحد العناصر حقيبتها، ويُخرج هاتفها المحمول ويقوم بتفتيشه، وبشرى واقفة في زاوية الغرفة تشعر كأنها بين وحوش لا تعرف متى تنقضُّ عليها .
تمنت الموت عندما وصل والدها بعكازه ودخل الغرفة، برجفة واضحة على يديه لم يبادلها النظرة وهي تنظر إليه كأنها تريد أن تقول له “سامحني” لكن على ماذا ؟
الشرعي :يرضيك يا حجي بنتك تقوم بهذا الشي؟
والد بشرى: لا يا ابني
كانت بشرى تستمع لكلمات الشرعي التي توحي بأنها عديمة الشرف، ويزداد بكاؤها كلما رد والدها بكلمات مقتضبة، وحالة من الانكسار تسيطر عليه.
بعد عدة أسئلة اتهامية ينهي الشرعي الحديث ويقول: هالمرة مشانك يا حجي ثاني مرة نتصرف بطريقة ثانية.
والد بشرى: يعطيك العافية يا ابني
تخرج بشرى مع والدها من الغرفة التي كانت تطبق عليها لمدة ساعتين، وعندما أصبحا خارج المقر كان بكاء والدها مسموعاً، فارتمت على صدره وقد كللتهما الدموع .. لا شيء سوى الدموع .