عن أحد مطابخ الثوار في إدلب
ولدت الفكرة في شهر أيلول/سبتمبر 2012، عندما أخبرتني صديقتي كفاح أنها أرسلت طعاماً لابنها ورفاقه الذين يقيمون في الحارة الشمالية . كانت إدلب حينها تشهد المظاهرات السلمية لفترة استمرت ستة أشهر . فترة تخللها تشييع جنازات، تحولت إلى مظاهرات حاشدة، كان تعدادها يزداد باستمرار.
بعد هذه المرحلة بدأنا نرى بعض الشبان يحملون السلاح، ويمشون مع المتظاهرين لحمايتهم من الأمن ومن العابثين. كنا نحب هؤلاء الشبان المسلّحين بيننا ونحييهم . وكان الهتاف الذي يسعدنا ويفرحهم “الله محيي الجيش الحر”. كنا نردده ونردده دون كلل أو ملل. كانت عيون الصبايا تلاحق هؤلاء الشبان الجميلين من مكان لمكان. وتراهنّ يتهامسن “شوفي هاد، ياي ما احلاه، بيجنن”. وهم، الشبان يمشون متباهين بجمالهم وسلاحهم وحمايتهم للحرائر. يسترقون النظر إلى الصبايا وكأنّ احداً لا يراهم، مع أننا كنا جميعنا نراقبهم ونفرح لابتساماتهم وسعادتهم. هؤلاء الشبان هم من الجيش الحر، من أبناء البلد الذين ما استطاعوا العودة إلى بيوتهم وأهاليهم خوفاً من الاعتقال، بسبب تقارير المخبرين الموجودين معهم في المظاهرة. لجأ هؤلاء الشباب إلى المزارع القريبة حول المدينة.
كانت عيون الامهات تمتلئ بالفخر عندما يتشاركن معهم في مظاهرة واحدة. ونفس العيون تمتلئ دموعا واّهات وحسرات بسبب تشرّد الأبناء خارج أسرّتهم، في أماكن بعيدة حيث لا نوم دافئ ولا طعام ساخن . في مرحلة لاحقة استوطن هؤلاء الشباب بيوتا خالية في المدينة، كان بعضها يعود لأقارب وبعضها وضعه الأصدقاء بتصرّفهم، عاشوا فيها على شكل مجموعات. في منطقة الضبيط التي أقطنها عرفت سبع مجموعات، يدخلون بيوتهم ويخرجون بسلاحهم الخفيف. كنا نخاف من وجودهم بين حاراتنا مكشوفين أمام الجميع. نخاف من المداهمات الأمنية التي يمكن أن تتطور إلى اشتباكات بالأسلحة ، ونخاف عليهم من غدر الغادرين.
استمر الحال هكذا إلى أن أخبرتني صديقتي كفاح أنها أرسلت طعاماً إلى مجموعة ابنها ورفاقه. لمعت الفكرة في رأسي! لماذا لم تخطر لي الفكرة ؟
بدأت أطبخ للمجموعات التي تضم أفراداً أعرفهم. اكتشفت لاحقاً أن غيري يطبخ لنفس المجموعة وفي اليوم نفسه. فقررت التنسيق مع بعض الشباب في هذا الموضوع. كنت أنتمي إلى جمعية “رحماء بينهم”. كانت مهمتي مع زميلات لي زيارة بيوت الشهداء والمعتقلين والفقراء من أهل الثورة، وجمع بيانات عنهم عن عدد أفراد العائلات وحالاتها الاجتماعية والحالات المرضية المحتاجة للمساعدة. اجتمعت مع زملائي وزميلاتي وعملنا برنامجا منسقا لتوزيع الطعام بشكل عادل، بمعدل كل يوم طبخ لمجموعتين. كل هذا الوقت وأنا أطبخ بمفردي وبمساعدة أخواتي . صارت المسؤولية كبيرة عليّ، وخاصة المادية منها، لكن أهل الخير من الأقرباء والأصدقاء لم يتركوني وحيدة.
خالتي أم رامي رحمها الله كانت ميسورة الحال، امرأة كبيرة في السن. كانت ترسل لي مبالغ مالية تباعا وتقول: “يا بنتي انا لا استطيع مساعدتك في الطبخ فخذي هذا المبلغ واشتري به مكونات الطعام”.
زميلتي وصديقتي أم سلّوم وكانت من ميسوري الحال ايضاً، اتصلت بي وقالت: “جيبي سيارة وتعالي لعندي”. ذهبت فأخذتني الى ثلاجة المنزل، أفرغت محتوياتها من رب البندورة إلى السمن والزيت وعصير الحامض والبازلاء والبامياء، وكل ما تحتويه ثلاجتها. أثناء خروجي من المنزل مع الأكياس السوداء الممتلئة وضعت في يدي مبلغاً كبيراً من المال وقالت: “اشتري به لحما ودجاجا للطبخ”.
صديقة اخرى قالت: “عليّ نذر خروف، سأقطّعه عند اللحام وأرسل اليك لحمه لتطبخيه”.
مجموعات أخرى من نساء المدينة حذون حذوي، وربما تكنّ قد سبقنني في هذا المشروع.
استمر هذا النشاط حتى دخل الجيش العربي السوري إلى المدينة، قاتل الشباب بوجه دبابات الجيش الذي لم يكن جيشهم في يوم من الأيام. منهم من استشهد ومنهم من خرج إلى الريف ليتابع مسيرته في الثورة.
أعود الى ذكريات مطبخ الثوار. صدقاً لم أطبخ طعاماً في حياتي أطيب منه بشهادة الجميع. ربما لأنني كنت أدللّ الطعام، أعززه بمكسرات، وسمن عربي وكميات اللحوم التي يحبها الشباب. وربما لأنه كان يخرج من قلبي حاملا معه مشاعر الحب والاعتزاز والخوف. طبخنا كل ما يخطر بالبال من الأكلات الصعبة كما نسميها، كالكبسة وورق العنب والسمبوسك والشيش برك والمحاشي. تميّزت أنا بصنع الحلويات التي ترافق وجبات الغداء. أحب الثوار حلوياتي، أرسلوا لي لاحقا كلمات الشكر والامتنان، حتى أن ابنتي عندما كانت تزورهم في ما بعد في أطراف البلد وفي المحافظات الأخرى كانوا يقولون لها: “أمك ام الكاتو؟ هممممم ما أطيب طعامها وحلوياتها!”.
نسيت أن أذكر أننا كنا نعد لصنع قالب كبير من الحلوى، أملنا أن ندخل به مجموعة غينيس وذلك في الذكرى السنوية الأولى للثورة، لكنّ دخول الجيش العربي السوري إلى المدينة في 10 آذار/مارس 2012، أجّل مشروعنا وإن شاء الله ننفّذه في وقت قريب.