عدنا إلى بيتنا وعادت الحياة
لا أزال أذكر ذاك اليوم وأحداثه، في 22 كانون الثاني/يناير 2012، بعد حملة تفتيش في الحي اعتقل جيش النظام أخي يوسف (15 عاماً). يومها دخل منزلنا نحو سبعة جنود، أخرجونا الى حديقة البيت، وألقوا أغراضنا الشخصية خلفنا. أذكرها وقد انهالت علينا، مثل قطرات المطر التي امتزجت مع دموعنا، وصوت تحطم الزجاج لم يطغَ على صوت إطلاق النار، إلّا في قلوبنا.
ضربوا أخي بقسوة، وعلى مرأى منّا. ابتساماتهم تدلّ على مدى سعادتهم بوحشيتهم هذه. قالت لي إحدى الجارات بعد عودة الجيش الى مقرهم القريب منّا جدا “ماذا إن عادوا وأهلك خارج المنزل إخوتك صغار لا يوجد غيرك في المنزل”. طلبت المساعدة من جارنا المتطوع في الجيش في مكان آخر، لإنقاذ أخي وتمكن من ذلك بعد أربع ساعات.
الأشجار المحيطة بمنزلنا كانت المكان الذي أختارته مجموعات من جيش النظام لإقامتها عقب دخول القرية في 14 حزيران/ يونيو 2011. ساعات قليلة مرّت وسط حالة من الخوف والقلق، حيث افتقد الظلام للنور حتى في أعين القطط البرية، حتى نباح الكلاب لم يعد مسموعاً. لم يعد لأبي إلا أن يروي لنا الأحاديث لكسر حاجز الخوف لدى إخوتي. فجأة رأيت السماء من خلال النوافذ أُضيئت بلون أرجواني، وكأنه يوم القيامة، أعقب ذلك انفجار قوي كسر الأواني الزجاجية وبلور النوافذ. كان ذلك دوي انفجار قنبلتين، واحدة مضيئة وأخرى عادية، استهدفتا الحاجز ، وبعدها لعلع صوت إطلاق نار كثيف. تجرأت أُختي على الكلام: “ليرفع يده عن الرشاش والله بيكفي”. ترافق ذلك مع صوت هدرٍ للماء، أدركنا حينها أن خزان الماء على السطح ثقب بعدة رصاصات، وتسرب الماء إلى بعض أرجاء المنزل بفعل الضغط الكبير.
بينما كنا نفكر جميعاً بما سيحلّ بنا متجمعين بزاوية واحدة نظنها آمنة، صحونا على أخي علي (8 سنوات) يصرخ: “اخ يا ماما يدي تؤلمني”. فودجئنا به وقد أُصيب بجرحٍ نتيجة اختراق رصاصة للنافذة واستقرارها بمرأة الخزانة فتحطمت عليه. لم يتمكن أبي من إسعافه بسبب الاشتباكات القائمة، إضافةً إلى فرض الجيش لمنع تجوال بعد الساعة السابعة مساءً. وبعد المعاناة وصلنا الى الإسعافات الأولية الموجودة في المنزل لإسعافه.
وبعد ساعة من الزمن توقف الاشتباك. وفي صباح اليوم التالي منعنا الثلج الذي غطّى الأرض، من حمل أمتعتنا ولكن لم يمنعنا من مغادرة المنزل باكراً، خوفاً من حملة اعتقال أُخرى.
حللنا ضيوفاً عند جدتي التي رحبت بنا وكنا 9 أشخاص. أذكر ما قالته أمي يومها: “يا رب كيف سنعيش كلنا هنا”. أمضينا ليلة باردة وهادئة. سواد هذه الليلة لم يتمكن من محو غبش المجهول. تجرأت أُختي زينب على السؤال: “ماذا سيحدث بنا الان؟” لا جواب يذكر حتى لمداعبة طفلة.
تفتحت عيناي على أشعة الشمس، وكأني قد نمت في الخارج، ولكن أخطأت الظن، وأيقنت أن الشمس ترسل لنا خيوطها الذهبية عبر ثقوب زوايا الغرفة. وبعد أسبوع من البرد انتقلنا إلى منزلنا الجديد. كنّا نظنّ أننا لن نرى تلك الملابس العسكرية مرة أخرى. ولكن سرعان ما تغير ذلك. إستيقظنا في يوم من الأيام على إطلاق نار كثيف، وأصوات مدرعات عالية. طلقات قناص استقرت بجدار المنزل. جيش النظام يداهم أحد مواقع الثوار في القسم الشمالي لقرية الجبل، في 2 نيسان/ أبريل 2012.
اختلست النظر من النافذة، ولن أنسى ذلك المشهد الدموي ما حييت، شاهدت عساكر النظام يعتقلون شخصاً، ساروا به بضع خطوات، ثم ركلوه وأطلقوا عليه الكثير من الرصاص. وفجأةً طُرق الباب بقوة كانت خالتي، وقبل السلام قالت : “كل المنشقين بالجبل الله يستر”. كلام أُمي وخالتي دفعنا جميعاً إلى البكاء، وكأننا ننتظر خبر وفاة أحدنا.
رأينا إحدى العربات المدرعة لجيش النظام في طريقها إلى مقرهم . رنين الهاتف أزعج الجميع. كانت عمتي على الطرف الآخر تخبرنا : “أن الملازم أول وليم قد أصيب في الجبل الله لا يرحمو”. وأخيراً سمعنا خبر سلامة أخي وأبي وأعمامي الثلاثة بالإضافة إلى خالي، المتواجدين في تلك المنطقة، محض مصادفة. وذلك عدا خالي المساعد أول المنشق إياد أحمد اليوسف، الذي تم أسره وجرّه بعربة مدرّعة (BMB) الى مدينة كفرنبل. تم إطلاق سراحه بعد شهرين من التعذيب.
وبعد ستة أشهر على بقائنا في منزل جدتي، وبعد تحرير مدينة كفرنبل في 10 آب/أغسطس 2012، عدنا إلى منزلنا. وبشكل تدريجي عادت الحياة والجيران إلى ذلك الحي. ذهب جيش النظام بمدرعاته ولكن سرعان ما عاد إلينا بطائراته ومروحياته. رغم ذلك لم تغب الابتسامة عن وجوهنا على حد قول أبي: “الحمد لله نحن في بيتنا الذي يخرج من منزله يقل قدره “.
أذكر تلك المرة حين كنت عائدة إلى البيت من زيارةٍ لإحدى صديقاتي، فوجئت بعدة نساء عندنا والضحك يملأ المنزل. لم يطل تساؤلي طويلا عن سبب الفرح إذ سمعت إحدى السيدات تقول: “الله يديم جمعتنا راحوا الله لا يرحمهن.”
آمنة اليوسف (21 عاماً) خريجة كلية حقوق في جامعة إدلب. تعيش مع عائلتها المكونة من تسعة أشخاص في إدلب، نزحت مع أسرتها عدّة مرات خلال السنوات الأربعة الماضية، آخرها كانت إلى الحدود التركية قبل أن يعودوا مؤخرا إلى منزلهم.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي