سوق العمل السوري… والدولة العلوية السورية

“سورية بخير” باتت العبارة الأشهر على مسامع السوريين إضافة إلى كلمة خلصت التي يرددها  النظام السوري وأعوانه والمتفقون معه ومؤيدوه في إشارة إلى انتهاء الأزمة التي تمر بها سورية، إلا أن المؤشرات على أرض الواقع تنبئ عن أيام مريرة سيعيشها السوريون سواء إن “خلصت” أو إن استمرت لسقوط النظام.

فالإعلانات الطرقية المنتشرة بكثرة في شوارع دمشق والتي تنبئ بأن سورية بخير، حتماً لا تعكس مدلولها إذ إن معطيات جديدة برزت وتداعيات عديدة طرأت ومازالت على حياة السوريين، منها الأساسي والجوهري ومنها ما يلقي بظلاله بالمقام الأول على المواطنين الطبيعيين لاسيما ذوي الدخل المتواضع، ومن هم من غير الطائفة العلوية والذين لايحظون بالامتيازات المخصصة لأتباعها.

الفوز بفرصة عمل على سبيل المثال أصبح بمثابة الشغل الشاغل لشريحة كبيرة من الشباب الذين استطلعنا أرائهم، حيث لم يعد بالأمر السهل بالنسبة لهم وأصبح أكثر تعقيداً عما مضى ليزداد إرباكاً عند الذين خسروا وظائفهم بسبب الأزمة أو نتيجةً لها لأسباب طبعاً باتت واضحة وأهمها الوضع الاقتصادي الآخذ بالتردي والوضع الأمني كذلك.

فكثر من أرباب العمل على إختلاف مستوياتهم ورساميلهم أصبحوا يقتصدون في عدد العاملين لديهم على حساب الزيادة في ساعات العمل للمستمرين، فالعمل الذي كان يتطلب ثلاث موظفين أنيط بموظف واحد وذلك  تقلصياً للنفقات، ومن لم يلجأ إلى هذه الطريقة اعتمد مبدأ تخفيض الأجور  كوسيلة لـ”التطفيش” تؤتي ثمارها بعد القليل من الوقت ذلك الكلام الذي أكده لنا حرفياً عدد من العاملين في شركة تجارية خاصة إذ إن رواتبهم إنخفضت بنسبة 20%  بذريعة تأثير الأزمة على الوضع الاقتصادي.

وفي حالات أخرى بات مكان السكن يلعب دوراً كبيراً في قبول أو رفض طلبات التوظيف، وحتى في تقليص الأجر لبعض العاملين ممن يقطنون في أماكن تشهد  توتراً ويتطلب وجود الحواجز الأمنية فيها العودة باكراً فمصطفى الذي يعمل في محل للبيع النظارات الشمسية والمعتاد على العمل من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءاً والذي يتقاضى 20 الف ليرة كراتب شهري أصبح مضطراً للعودة في الساعة السادسة نظراً لأن منطقة المعضمية في ريف دمشق التي يقطن بها لازالت تشهد توترات والحواجز الأمنية مزروعة عند مدخلها مما يجعل التجول فيها ليلاً لا يخلى من الخطورة لتكون نتيجة ذلك خمسة آلاف ليرة خصمت من راتبه.

أما منطقة الميدان في محافظة دمشق فقد أصبحت من الأماكن التي تثير القلق شأنها شأن جميع المناطق المتوترة في كافة المحافظات السورية، حيث يحدثنا الشاب معتز متسائلاً كيف “خلصت” إذا كان سكني في منطقة الميدان سبباً في عدم قبولي في أكثر من عمل؟

الشاب ذو 18 عاماً كان يود الحصول على عمل يساعده في تحمل أعباء الدراسة لكن آماله أجهضت ولأكثر من مرة باءت محاولاته بالفشل، ففي حالته وأمثاله من هم من فئة الشباب (ذكوراً وإناثاً) ونظراً لأن منطقة الميدان شهدت ولازالت تشهد عدة تظاهرات مناوئة للنظام، فقد باتوا موضعاً للريبة ومثاراً للشك فيما أصحاب العمل يتعاملون على مبدأ “بالناقص وجعة راس”.

كما أن المضايقات والمحاربة في لقمة العيش كما وصفتها إحدى العاملات في محل لبيع الالبسة أصبحت علناً وعالمكشوف سواء أكانت بغاية الاستفزاز والشحن الطائفي أو بغية الوصول إلى النتيجة النهائية وهي التخفيف من الأعباء المادية على أصحاب العمل.

وفي الحقل الإعلامي تظهر تلك المضايقات جلية ويطول الحديث عنها وذلك من قبل القائمين على الوسائل الإعلامية على إختلافها نظراً لحساسية الموقف، وخصوصاً إذا كانوا من العلويين أو أقربائهم، ولاسيما إذا تم التأكد أن ثمة من يقف من تعداد موظفيهم في صف المعارضة أو أن أفكارهم لا تنسجم مع  نظرية المؤامرة التي يتبنوها.

شاهدتنا في هذه الحالة هي إحدى المحررات في موقع إلكتروني يعرف بمحاباته للنظام، ولأنه ممول سراً من المخابرات السورية لم يتوانى القائمون عليه ابداً – بزحلقة – الشابة بطريقة ممنهجة تبتعد كل البعد عن أخلاق العمل الصحفي، لأنها لم تقتنع بأفكارهم ولا تحبذ متابعة قناة الدنيا فاتخذوا من إستخدامها لحاسوبها الشخصي بدلاً من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالموقع ذريعة إستندوا عليها كي يجعلوها تترك العمل، فهي من وجهة نظرهم – مندسة – وأصبحت تشكل خطراً عليهم.

ولكن في المقابل وبما أن لقمة العيش غالية ومستلزمات الحياة لم  تعد بالأمر السهل نجد أن كثر هم محكومون للراتب الذي يتقاضونه على حساب قناعاتهم ووجهات نظرهم وعلى حساب الحقيقة التي قد يكونوا مقتنعين بها داخلياً، مما يتطلب منهم إتقان فنون المواراة والمدارة أو حتى عزل نفسهم كلياً عما يدور حولهم وتجنب الخوض في أي حديث يمكن أن يكون له صلة بأرض الواقع وذلك كله لضمان إستمراية العمل، وقد يكشف ذلك عن مفارقات وتناقضات غريبة تعكس مدى التخبط والتشتت الذي يعصف بالشباب السوري، حيث لخص أحد الصحفيين الذي رفض  ذكر حتى اسمه الاول الموضوع بقوله “بالرغم من أنني أعمل في القسم السياسي إلا أنني غير مقتنع نهايئاً بالسياسة والطريقة التي ينتهجها الموقع، وقد أقدم على صياغة أخبار لا أكون مقتنع بها كلياً ولا تمثل وجهة نظري ومواقفي لكن بالرغم من ذلك أجد نفسي مضطراً كي لا أجد نفسي بلا عمل فأنا بالنهاية شاب ولدي التزامات”.

وإذا قمنا بالإنتقال إلى الحديث عن العمل الحكومي والذي لا تخفى على أحد طبيعة مؤسساته ودوائره الحكومية وآلية الوصول إلى وظائفه فالحديث له شجون، وبالرغم من أن حكومة سفر العتيدة منّت ببرنامج تشغيل الشباب والذي من شأنه أن يقوم بتأمين فرصة عمل على مدار الخطة الخمسية الحادية العشرة، إلا أن الفعل لم يكن بمستوى القول وكما جرت العادة في سورية تتدخل جميع الإعتبارات في إمكانية الحصول على الوظيفة الحكومية (الواسطة والطائفة، المحافظة والمنطقة…) عدا الكفاءة، لتتحول فرص العمل تلك إلى مادة دسمة في الصحف حتى الموالي منها نظراً للإجراءات الظاهرية التي إتبعتها المؤسسات في اختبار المتقدمين والتي لم تسفر سوى عن نتائج كانت معروفة سلفاً، ليقع كثر من المتقدمين ممن لم يعوا اللعبة في فخ الإحباط وفقدان الأمل أمثال مجموعة من الشباب والشابات ممن تقدموا لتلك المسابقات والذين أكدوا لنا الكلام السابق بتفاصيله وليس ذلك فحسب بل ذهب أحدهم أبعد من ذلك واصفاً تلك المسابقات بمحاولة فاشلة -لاستغباء – شريحة الشباب تحديداً والشعب عموماً يقوم بها النظام من أجل إقناعهم بفكرة الإصلاح البالية والمنتهية المفعول.

كما أن محاولات عزل الطائفة السنية عن مراكز المؤسسات والدوائر في عدد من المحافظات وذلك بنقل عدد من الموظفين المنتمين إليها إلى مديريات فرعية لم تعد تخفى على أحد وأصبحت عالمكشوف في محاولة حثيثة من قبل النظام لتكريس الفكر الطائفي وتمكين الطائفة العلوية أكثر فأكثر في مواقع النفوذ، وهو ما حصل مع أحد موظفي محافظة دمشق، إذ تم إستبداله بموظف من الطائفة العلوية إضافة لنقل عدد كبير من أصدقائه لمديريات فرعية مهمشة عملياً، وليست القصة محصورة بالمحافظة فحسب وإنما تجاوزتها لعدد من الدوائر والمديريات المدنية والعسكرية إذ يتذمر عدد من العناصر والقادة العسكريين من المعاملة السيئة التي يجدونها من قبل الأجهزة الأمنية التي تراقبهم وتراقب أعمالهم، وتهمشهم في وظائفهم حتى وإن كانوا من الموالين للنظام.

أحوال السوريون باتت من سيئ إلى أسوأ وواقع العمل في ظل الأوضاع ليس إلا كلمة من كتاب المعاناة التي تعيشها سورية وأبنائها يوماً بعد يوم.