رحلنا عن الزبداني فهل سنعود ؟

الصورة من صفحة الزبداني على الفايسبوك

أذكر جيداً ذلك اليوم، وكأنه حدث بالأمس. لايزال يتمثل أمام ناظري بكل قسوته وخوفه. الرحيل الذي حط بنا في لبنان في نهاية المطاف، لا يزال ذاك المشهد يؤلمني ويقضّ مضجعي. في كانون الثاني/يناير 2012 ، شنّ النظام حملته على الزبداني. وهدد بقصفها وقتل كل حيّ فيها، وبتحويلها إلى ركام في حال عدم تسليم المنشقين عن الجيش وإن لم تتوقف عن التظاهر.
الزبداني مدينة ساحرة بجمالها بسهلها وجبلها… مشهورة بهوائها العليل وفاكهتها وخضارها. تقع في ريف دمشق الغربي وتبعد عن العاصمة دمشق 45 كيلومتراً. ثارت على النظام وخرجت المظاهرات الأولى في 25 آذار/مارس 2011، ولم تهدأ لحظة منذ خروجها الأول.
جاء الرفض من الزبداني بتسليم المنشقين. بدأ غضب النظام يحلّ عليها. كان القرار الأكثر شيوعاً لدى الزبدانيين الرحيل. الرحيل الى مكان قريب يأويهم لعدة أيام بينما يتم اصلاح الأمور بين النظام والثائرين. لكن الرحيل كان أبدياً… وإلى المجهول.
تساقطت القذائف في شباط/فبرير 2012 على أطراف الزبداني، منذرة بخراب وشؤم سيلحق بمن يختار البقاء. ومع النار والبارود لا خيار لديك إلّا الموت أو الموت.
يشعل أبي المسن سيجارته ويتأمل المكان. وتغرق عيناه بالدموع المندفعة على وجنتيه السمراوين وجبينه العالي الذي حفر فيه الزمن أخاديداً من التعب والشقاء. يفكر مليّاً ويقرر الرحيل، خوفاً على أبنائه بعد اشتداد القصف على مدينتنا الحبيبة.
بعد ظهر أحد أيام شباط/فبرايرالغاضب؛ جمعت أمي بعض الحاجيات من الطعام والخبز وثياب. أحضر أبي على عجل سيارة كانت لأحد الثوار في المدينة. رمينا أغراضنا في السيارة وجلسنا متلاصقين متراكمين كصناديق الخضار في شاحنة ما… لم يطل الطريق بنا لأن السيارة كانت تسير بسرعة الطائرة، وتتعرج في طريقها متفاديةً شظايا القذائف. نجونا بأعجوبة من القصف الذي يستهدف كل شيء وأي شيء.
بعد وقت ليس بالقصير وصلنا أخيراً. وجوه كثيرة بائسة حزينة من أقربائنا وجيراننا لكن وجه رجل هرم قد اكتظ بتعابير الألم والحزن لفقدان بيته وأرضه لا تبرح صورته مخيلتي؛ لعله كان يعي ألم الرحيل وأن خروجنا هو خطوة في طريق التغريبة السورية؟!
بعد شهر من ارتحالنا الأول، في شقة قديمة مهجورة على أطراف الزبداني حططنا الرحال من جديد، وحملنا بقايا أمتعتنا لم نأبه كثيراً فكل الظن أنها أيام قليلة ستمضي كسابقتها ونعود إلى بيتنا، لم نفكر قط أنها بداية التغريبة.
خلال بضعة أيام، خلت المدينة بنسبة كبيرة وامتلأت منازل النزوح الجديدة بأهالٍ جدد، وعلى عتباتها وأدراجها جلس المسنّون من أبناء حارتنا يسألون ويتساءلون عن الجار القديم، وعن رفيق قضى مع ولده بقذيفة في سهل الزبداني وآخر عزم على الفرار إلى دمشق. تراودهم أسئلة كثيرة، تدور في عقولهم المرتعدة خوفاً على الولد و الدار والحقل وأشجار التفاح. بينما اكتفت أخرى بتكرار سبحتها حبة تلو أخرى وتتمتم بكلام يشبه التسبيح لكنها تعجز عن رفع صوتها خوفاً وقهراً.
لم يستمر النزوح الآمن طويلاً ما هي إلا أيام معدودة حتى طال القصف بيوتنا الجديدة التي لم نعتد عليها بعد. توجه الجمع الغفير من النساء والأطفال والرجال إلى الطوابق السفلى، وجلسوا في الممر حيث الكثير من الأرجل والأيدي والأرواح مكدسة في ظلمة تملأ المكان، والكثير من التسبيحات وتراتيل القرآن والقليل من الهدوء.
ثلاث ساعات من الرعب والخوف عشناها مترقبين وجلين من المجهول. ننتظر القدر الذي سنواجهه بعد لحظة أو دقيقة. هدأ الجو واختفت الضوضاء لكن المكان ما زال يعبق برائحة الموت والدمار والبارود. لم يفهم أحد ما حصل. همس أحدهم لأبي «الثوار اقتربوا من مركز أمن الدولة فجن جنون الأخير وفتح نار الغضب على المنطقة» كان ذلك في 24 نيسان/أبريل 2012.
آلمتني رؤية رجال حارتنا والنساء والعجائز، يبحثون حولهم عن بيت يعرفونه عن شوارع ألفوها وألفتهم وتقطعت أحذيتهم ذهاباً وإياباً على دروبها. افتقدوا أشجار التفاح والاجاص والتين، افتقدوا كل شيء، حتى الروح تركوها تحرس منازلهم وتفاحهم وذكرياتهم. من كثرة الألم أصبحوا أجساداً بلا أرواح.
لم تنته القصة.قل هي البداية، ومن هنا بدأ النزوح الأبدي نحو المصير المجهول. رحلنا للمرة الثالثة الى بلدة بلودان الخاضعة لسيطرة اللجان الشعبية والنظام المجاورة للزبداني. حملتنا سيارة أنا وأخواتي وطفلين من أبنائهن مع والديّ، نحو الأمان المنشود الذي غاب منذ خروجنا الأول من منزلنا الدافئ، ولم نجده.
بعد 6 أشهر تقريباً اعتقلوا أبي عن مائدتنا، كانت مجموعة تابعة للنظام، ولايزال حتى اليوم غائباً في عداد المفقودين. كان ذلك في شهر رمضان من عام 2013 ، وتم تهديدنا للرحيل عن البلدة أو الاعتقال بسبب معارضتنا للنظام وهددونا كثيراً، بكل ما يخطر بالبال أو لا يخطر.
حينها انطلقنا نحو الجرح الذي لن يندمل. نحو بداية الغربة الحقيقية. كانت وجهتنا لبنان في 30 آب/أغسطس 2014. في طريقنا لاحت لنا من بعيد منازلنا وأزقتنا التي حفظت أصواتنا و خربشاتنا على جدرانها، وأشجار التفاح تلوّح وتصرخ بنا. تودعنا ونودعها بعيون مليئة بالقهر والدموع والحزن. وبقليل من الأمل نكسر به حاجز القلق أحياناً ونكذب على أنفسنا “إننا عائدون” .
وصلنا إلى برّ الأمان كما ظننا، وتركنا خلفنا مدينة التفاح الحزين تنتظر عودة أهلها. لكن رحلة الغربة مازالت قائمة تفتك بأرواحنا، تأكل ماضينا وذكرياتنا، حطت رحالنا من بعد غربة وغربات في لبنان حيث السوري المنبوذ. لم أشعر يوماً بالراحة ولا الأمان . مازالت الزبداني تأكل روحي وتأتيني في الأحلام، تناديني وتبكيني وأبكيها في كل يوم ألف مرة ومرة، فهل سنعود؟
نور احمد (26 عاماً) من مدينة الزبداني تخرجت من المعهد الهندسي في دمشق. تعمل كصحفية لصالح عدة وكالات إخبارية، الى جانب عملها كمعلمة للاطفال السوريين في لبنان. بدأت نشاطها الثوري منتصف العام 2012 كمحررة وكاتبة لمجلة اوكسجين الصادرة عن الزبداني.