خسرت الماجستير وربحت نفسي
بعد أن نلت شهادة الإجازة الجامعية من جامعة حلب، حصلت على وظيفة في إحدى الكليات في مدينتي إدلب. قررت إكمال دراستي لنيل شهادة الماجستير، و بالفعل تقدمت لمفاضلة الدراسات في جامعة حلب وفي جامعة تشرين في اللاذقية، حيث تم قبولي في جامعة تشرين.
تزامن قبولي في جامعة تشرين مع انتفاضة محافظة إدلب، ملبية نداء الثورة نصرة لدرعا وحمص. كانت صور المظاهرات الكرنفالية ولافتاتها الكفرنبلية (نسبة الى كفرنبل) ومقاطع انشقاق أبنائها عن النظام تغزو الشاشات، وتتسابق إليها الفضائيات والصفحات، لتتحول من مدينة منسية إلى أيقونة للثورة. كبرت مدينتي في نظري وأصبحت مصدر فخري.
لم تكن لدي الدراية الكافية حول ماهية وتركيبة المجتمع في اللاذقية، سوى ما كنت أسمعه من عمتي وعائلتها التي تسكن فيها منذ زمن، عن ممارسات الشبيحة وقصصهم. سجلت في الجامعة وبدأت بالحضور الذي كان يقتصر على يومين في الاسبوع. كان معنا في الدفعة طلاب علويون، ولم يكن خافياً منذ البداية التمييز بيننا نحن الطلبة السنة وبينهم .كان حجابي ولباسي بالإضافة إلى ذكر اسم إدلب عند سؤالي عن مدينتي، كل هذا كان كفيلا بوضع الهالات الحمراء وإشارات الاستفهام حولي. كنت أظن قبل دخولي جامعة تشرين، أن التشبيح يقتصر على فئة معينة من الناس، لكنني اكتشفت بعد ذلك أن التشبيح في بلدي عابر للطبقات الاجتماعية. ابتداء من العنصر الذي يقف على الحاجز وليس انتهاء بالدكتور والبروفيسور ورئيس القسم في الجامعة.
كلما كنت أذهب إلى اللاذقية من أجل محاضراتي، كنت أسمع الشتائم تنهال على إرهابيي إدلب. وأسمع التهديد والوعيد بسحقهم ومسح إدلب وريفها من خريطة الوطن. ضبط النفس حيال كل ما أسمع سلبني فخري بثورتي ومدينتي. الكثير مما امتلكت طوال عمري من تلك السياسة مجرد صمتي وعدم مشاركتي او موافقتي رأيهم، يعني انتمائي إلى الفئة التي يستعدونها. طبعا لم أكن قادرة على مهادنتهم أومجاراتهم، على الأقل خدمة لمصلحتي الدراسية، أو حرصاً على سلامتي. كنت أعتبر ذلك خيانة للثورة ولدماء الشهداء ولمبادئي. زاد من هذا الحقد خروج المظاهرات في بعض أحياء اللاذقية السنية، والتي كانت متنفسا لغضبي. أذكر انني خرجت هناك بمظاهرة واحدة، ورافقت عن بعد عدة مظاهرات، اثناء إقامتي في منزل عمتي في حي الطابيات، بصحبة فتيان صغار هم أحفاد عمتي. هذه الفئة العمرية رغم صغرها إلا أنها ذاقت من ظلم وقهر النظام من تفرقة وتمييز وفقر الشئ الكثير. تحد وعنفوان وشجاعة مجنونة كانت تملأهم وتحيلهم مشاريع شهداء أو معتقلين. مع أنني كنت أخرج دوما في مظاهرات إدلب، إلا أن شعور الحرية والرعب والخطر للتظاهر في اللاذقية لا يجاريه شعور آخر.
أن تسقط النظام في ساحله وبين شبيحته وأنصاره، هذا شئ لم يكن لخيالي في أخصب مواسمه أن يصل إليه. بعد كل جمعة كانت تزداد الضغوط علي من قبل بعض دكاترة الجامعة، بازياد عدد ونقاط المظاهرات في إدلب. زاد من كرهي اعتقال اثنين من أحفاد عمتي واستشهاد صهر ابنها تحت التعذيب، وهو شاب في الثامنة والعشرين من عمره، أب لطفلتين جميليتن مثله، ووحيد لأم أرملة لمعتقل في أحداث الثمانينات، شهيد إبن شهيد، ليدفع ذلك أغلب شباب العائلة وفتيانها للخروج إلى الجبال والانضمام إلى الجيش الحر، ويجبر رجالها على الخروج بعائلاتهم إلى مخيمات النزوح في تركيا. ولتبقى عمتي وبعض بناتها وحيدات في مواجهة شبح خبر استشهاد أحد أبنائهن.
أذكر حين قتحم جيش النظام مدينة إدلب في معركة غير متكافئة مع الثوار الذين خرجوا من المدينة بصحبة عائلاتهم، وتغير وجه الحياة في إدلب من ارض تتنفس الحرية إلى مستعمرة تختنق قهراً وظلماً، اعتقالات بالجملة للشباب، وخوف وذل وطرقات لم تعد آمنة اجبرتني على عدم السفر والانقطاع عن الدوام لفترة شهر كامل، لأعود بعد ذلك وأسمع عبارات الشماتة بمدينتي وثوارها لتزيد من حرقة قلبي، وتجعلني أكره ذلك الجو أكثر فأكثر. وشعور الانكسار يملأ نفسي ويضعف من عزيمتي.
كانت السنة الأولى من دراستي قد شارفت على الانتهاء. ويتوجب علي حسم أمر اختياري للدكتور الذي سيشرف على رسالتي الماجستير. وكان دكتور من ريف اللاذقية من إحدى القرى السنية المجاورة لسلمى، وقد رحب بي كثيراً، حيث انني أحسست من لهفته علي وأنا ابنة إدلب، أنه يحمل نفس الفكر المعارض الذي أحمله، طبعا دون أن يصرح أحدنا للآخر بذلك. اتفقنا مبدئيا على العناوين العريضة للعمل، وبعد مدة وجيزة اختفى الدكتور من الجامعة، غرفته مقفلة ولا يجيب على هاتفه الخليوي. سألت عنه رئيس القسم فأجابني بلهجة قاسية بأنه هرب ولا أحد يعرف مكانه. صعقت من هول الصدمة يا ترى أين ذهب؟ وما الذي حصل معه ودفعه لذلك؟ وماذا عني أنا وعن رسالتي وقد سجلت اسمي عنده؟ ماذا سأفعل ؟
بعد عدة أيام أرسل لي رداً مختصراً بالبريد الألكتروني يقول فيه: أنا آسف يا ابنتي الظروف أقوى مني، أولاد الحرام هددوني، ما دفعني للرحيل، انا في تركيا انتبهي على نفسك وأتمنى لك التوفيق. لم أعرف تفاصيل ماحدث معه، لكن الأمر أصبح واضحاً.
واجهت بعد ذلك معاناة كبيرة. لم يقبل أي دكتور بالإشراف علي أنا وزميلين لي لأننا كنا تحت اشراف ذلك الدكتور الخائن للوطن برأيهم. كل تلك الضغوط جعلتني أنفر من الجامعة وأكره الدوام، وحتى حلمي في الحصول على الماجستير لم يعد يمثل لي ما كان يمثله من قبل. كنت امنّي نفسي بأن النظام لن يطول عمره وحينها أستطيع إكمال دراستي في الجو الذي اتمناه. اتخذت قراراً بعدم التسجيل في الجامعة إلى أن يشاء الله لي. وبالفعل أوقفت تسجيلي ومع مرور الأيام وتضاخم الأحداث في بلدي خسرت تسجيلي في الجامعة. وانتهى حلمي بإكمال الدراسة، حالي حال كثيرين ممن خسروا أحلامهم في وطن لم يعد يعطي لأبنائه إلّا الخسارات.
كان ينتابني شعور بالندم أحيانا لتركي حلمي، كلما رأيت من حولي يكملون دراستهم ويحصلون على الماجستير ويتابعون الدكتوراه، لكنني كنت أبعد عني هذه الأفكار بأنني بالمقابل ربحت احترامي لنفسي وبأن تضحيتي مخجلة أمام تضحيات غيري وبأن الثورة تضحية.