حلب لا تريد أحداً
كمقدمة أخبار في إذاعة محلية أكون دوماً على إطلاع على ما يحدث في العالم، وخصوصاً في سوريا وأخبار المجازر والقتل والتشريد والعذاب. أحاول غالباً عندما اقرأ الخبر، ألّا أقف عنده كثيراً، وألّا أركز على مضمونه.
من الصّعب أن تشاهد بعينيك ما يحدث، وأن تقدمه للناس يومياً دون أن تتأثر.
يوم الأربعاء بتاريخ 27 نيسان/أبريل 2016، نقلت بصوتي للمستمعين ما حدث في حلب من مجازر ودمار هائل. في هذا اليوم حدثت مجزرة في حي السكري بحلب جراء غارة “للطيران الروسي” استهدفت مشفى القدس وراح ضحية الغارة حوالي 25 شهيداً وأكثر من 42 جريحاص، من نساء ورجال وأطفال وشيوخ .
لم يقف الموت في حلب عند هذا التاريخ بل نقلت مجدداً للناس وبصوتي في اليوم التالي، الخميس 28 نيسان/أبريل مجزرة جديدة حدثت ايضاً في حي السكري في مدينة حلب جراء غارات من قبل “الطيران الروسي” صباحاً على المدينة، ما أدى لاستشهاد مدنيين ووقوع عدد من الجرحى. وبعد عدة ساعات وفي نفس اليوم طائرات حربية تابعة “للنظام السوري” ارتكبت مجزرة أخرى في أحياء الكلاسة وبستان القصر والسكري والصاخور بحلب، خلّفت 25 شهيداً وعشرات الجرحى، وكان عدد الشهداء مرشح للارتفاع بسبب وجود أشخاص عالقين تحت الأنقاض. القصف “الروسي” أسفر عن استشهاد طبيب الأطفال في مدينة حلب، وباستشهاده تكون حلب قد باتت بلا طبيب بعد ان كان الطبيب الوحيد في المدينة.
من الأخبار التي قدمتها عن حلب، أزعجني خبر عن منظمة الصليب الأحمر الدولية التي تحذر في بيان لها أن “حلب على شفا كارثة إنسانية بعد أسبوع من تصاعد العنف” فيها. ولكن ما الجدوى بعد كل هذا الموت؟ ما الجدوى من التحذير والبيانات؟ لا جدوى!
كنت أرصد الاخبار لأكمل موجزي المخزي المليء بالموت. رأيت على موقع العربية نت أن الولايات المتحدة دعت يوم الخميس، روسيا إلى لجم واحتواء نظام بشار الأسد في سوريا، بعد قصفه مستشفى “أطباء بلا حدود” في حلب، معبرة عن “غضبها الشديد” بعد هذه المجزرة. ضحكتُ بغرابة عندما رأيت هذا الخبر. ماذا سيحدث إن غضبت امريكا؟ هل سيتوقف الموت في حلب؟ لا أظن.
يوم الجمعة بتاريخ 29 نيسان/أبريل، إنه يوم إجازتي الأسبوعية. كنت أستمع على الراديو عن مجزرة جديدة في حلب يقول الخبر: “استشهد عشرة مدنيين ووقع 15 جريحا، إثر استهداف طيران النظام السوري المروحي بالألغام البحرية حي الفردوس بحلب، كما استشهدت امرأة واصيب ثلاثة اخرون بجروح جراء قصف جوي لطيران النظام السوري الحربي استهدف حي المشهد بحلب صباح اليوم.” تلا الخبر خبر جديد بدأ بالموت ايضا يقول: “استشهاد رجل متأثراً بإصابته نتيجة غارة جوية من طيران النظام السوري الذي استهدفت حي باب النيرب بحلب صباح اليوم.” صباح يوم الجمعة حمل موتاً كبيراً لم نكن مستعدين له أو حتى متوقعين أشكاله.
يسأل أبي وهو يشاهد اخبار حلب على الشاشات “إلى متى سنبقى نعيش هكذا والدنيا تشاهد ما يحدث لنا كفيلم سينمائي؟” ينظر إلينا بغصة ويصمت. لا أظنه كان ينتظر جواباً.
أتابع الاستماع لموجز الأخبار. يكمل المذيع الموجز وفي خبره التالي: “قناص تابع لقوات النظام السوري متمركز في القصر البلدي في مدينة حلب، يستهدف فرق الدفاع المدني في حي بستان القصر، إثر محاولتهم رفع الأنقاض وإسعاف الجرحى إثر غارة جوية استهدفت الحي، دون ورود أنباء عن اصابات بين صفوفهم”. وأخيراً غارة بلا ضحايا.. شعرتُ بالبهجة!
لم أستطع النوم ومواقع التواصل الاجتماعي تزداد حمرة وتضج بحلب، اللون الأحمر يسيطر على الفايسبوك والتويتر ومواقع أخرى وهاشتاغات تزداد. حلب تحترق، أنقذوا حلب، السلام لحلب وغيرها، أتصفح الفايسبوك ولا أستطيع رؤية شيء سوى صور الدماء والأشلاء المتناثرة والجثث، الأطفال المُتفحمين والنساء تحت الركام والأبنية المُدمرة والشوارع الخالية المهجورة، والأحياء السكينة الي أصبحت مسكناً للأشباح مؤخراً.
أعجز عن التغاضي، أينما بحثت أخبار حلب ومجازرها وصورها تملأ المكان. لكن ماذا افعل؟ المجتمع الدولي يشاهد بصمت. تصلني رسائل في كل مواقع التواصل الاجتماعي وتقول: “شاركي صور حلب.. تفاعلي مع هاشتاغات حلب” وغيرها. تنهال علي هذه الرسائل على مدار ثلاثة أيام دامية. وأتساءل ماذا ينتظرني غداً في الإذاعة (التي أعمل فيها)؟ ماذا ستكون الأخبار الجديدة؟ عما ستتحدث؟ أين ستكون؟ أهي حلب مجدداً أم أنها ضحية جديدة؟
السبت 30 نيسان/أبريل وحلب مازالت تُقتل. مرت الأيام بسرعة وكأننا لم نعد نريد إحصاءها والتحدث عن موت واحتراق حلب.
الخميس 5 أيار/مايو تقول الأخبار: “رغم بدء الهدنة، استشهاد عدد من المدنيين اليوم الخميس، بعد استهداف سيارة تقلهم عند جسر المهندسين على الطريق الدولي، بقذيفة دبابة من قبل قوات نظام الأسد المتمركزة في قرية خلصة بريف حلب الشمالي”.
اختلفت طريقة الموت واختلفت نوعية الدمار ولكنها حلب مازالت الضحية إلى جانب مدن أخرى.
أخشى تزايد أعداد القتلى والجرحى، وأخشى اليوم الذي سأكون فيه عاجزة عن نقل أخبار الموت للأحياء الذين يموتون ببطء، كما أخشى أن أموت مثلهم أشلاء وأن تتفحم جثتي بقذيفة او صاروخ. أخشى التشوه والتقطع حين أموت وأكره كثيراً أن أفكر كيف ستكون نهايتي.
منى المحمد (20 عاماً) اضطرت لترك دراسة سنتها الجامعية الثالثة في الأدب العربي بسبب النزوح. ولدت بالطبقة بريف الرقّة، وعاشت متنقلة بينها وبين الحسكة ودير الزور، لتستقر
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي