ثلاث ساعات عصيبة في رأس العين (سري كانيه)
لم أكن أتخيل يوماً أن أرحل عن رأس العين، ولم أكن أعلم أن غيابي عنها لمدة أسبوعين كافٍ لتغيّر معالمها. فقد تركتها مدينةً تنعم بالاستقرار والأمان لأعود وأراها ركاماً فوق ركام.
تعاني المدينة اليوم بعيداً عن أعين العالم، وحتى قوى المعارضة لا تلتفت إلى حالها. لا يوجد في رأس العين حالياً إلا بعض الأهالي الذين يسكنون على أطرافها بمحاذاة الحدود التركية، وقد انقسمت المدينة قسمين: الجهة الشمالية تحت راية كل من “جبهة النصرة” و”كتيبة غرباء الشام”، اللتين تدّعيان أنهما جزء من “الجيش الحر” ودخلتا المدينة يوم 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012. أما الجهة الجنوبية، فتقع تحت سيطرة “قوات الحماية الشعبية” التي تتبع “حزب الإتحاد الديمقراطي”، وهي منطقة غالبية سكانها من الأكراد. أما باقي سكان المدينة فقد هجروها ولجؤوا إلى تركيا، كما فعلتُ أنا وعائلتي، أو إلى مدن أخرى في منطقة الجزيرة السورية.
خرج السكان من المدينة بعد أن اقتحمتها “جبهة النصرة” و”كتيبة غرباء الشام” وسيطرتا على المفرزتين الأمنيتين الوحيدتين، ما تبعه قيام القوات النظامية بقصف المدينة جواً، علماً أن الجيش النظامي لم يكن موجوداً في رأس العين من قبل ولم يرسل قواتً برية إلى المدينة بعد الاشتباكات.
غيابي عن كل تلك الاحداث شكل لدي هاجساً دفعني إلى زيارة المدينة. دخلت رأس العين يوم 23 تشرين الثاني/نوفمر عبر البوابة الحدودية التي تفصلها عن مدينة جيلان بينار التركية، تاركاً طريق العودة للقدر لأني سأضطر إلى العودة خلسة، فالجيش التركي لن يدعني أعود عبر البوابة مرة أخرى. كان أهالي المدينة ممن لجؤوا إلى تركيا قد نصحوني بعدم الدخول بسبب وجود اشتباكات بين الكتائب وعناصر “قوات الحماية”، كانت قد أخذت شكل صراع عربي – كردي. وعلى الرغم من أنني كردي، إلا أنني كإنسان مؤمن بالثورة وعمل على مدى الشهور السابقة في خدمتها لم أخشَ الدخول.
عند وصولي إلى أحضان رأس العين دخلت عالماً آخر، غير ذاك الذي كنت أعيش فيه قبل دمارها حيث كانت المدينة تنعم بثورة سلمية، دون أي وجود مسلح. حتى تلك المفارز الأمنية لم تكن تستطيع التدخل في الحراك الثوري الذي كان قوياً ويغلب عليه الطابع الكردي.
كانت دبابات الكتائب على الجانب السوري من المعبر، وتوغلت اثنتان منها إلى داخل المدينة بالتزامن مع دخولي، بينما كانت تعلو هتافات “الله أكبر”. تساءلتُ عن وجهة الدبابتين في ظل عدم وجود قوات للنظام! هل الكتائب وجدت لحماية المدنيين أم لتدمير المدينة؟ حتى وإن كانت هذه الكتائب تخوض معركة مع عناصر “الحماية الشعبية”، هذا لا يبرر دخول الدبابات التي ربما تقصف بيوت المدنيين. عندها انتابتني الحيرة: هل أكمل المسير أم أعود أدراجي؟ قررت أن أتابع سيري ولكن بحذر، فالقناصة كانوا منتشرين في كل مكان.
وصلت الحي الذي تربيت فيه. كان الصمت يسود المكان والبيوت مدمرة بسبب القصف الجوي الذي طال المدينة وغيّر كل معالمها. وصلت في النهاية إلى منزلي الذي تضرر بفعل القصف هو الآخر. كنت أحبس الدموع في عينيّ وصوت أنفاسي يخرج بقوة في ظل ذاك الصمت. وقفت وأنا أرى هذا المنظر وأتذكر أهلي وأقربائي الذين هجروا المدينة، وغيرهم ممن لم يلقَ مسكناً واضطر إلى العيش في المخيمات وتحمل شدة البرد. دخلت بعدها المنزل و ضربات قلبي تتسارع. أحسست بأني أحتضن طفلاً يتيماً. كنت أسير بين أرجائه وأنا ألامس جدرانه الباردة التي تنتظر جلساتنا لتعيد له دفأه. حتى القفص الصغير الذي كانت فيه عصافير طفلي بات فارغاً. صعدت بعدها إلى سطح المنزل لأشاهد المدينة. بدت رأس العين وكأنها اغتصبت. لم يخشَ على رونقها ذاك الطيار الجبان عند قصفها.
لكنّ منزلي كان جميلاً رغم ألمه، رغم الظلام الذي خيم عليه وانقطاع الحياة عنه. حز بنفسي ترك غرفتي التي لطالما عشت فيها أجمل أيامي، طاولتي ومكتبتي الجميلة. في لحظة وددت لو أني أستطيع حمل كل ذلك بعيداً عن القتل والدمار.
خرجت من المنزل باتجاه وسط المدينة التي لم أستطع تجاوزها بسبب انتشار القناصة، ثم قررت العودة بعد أن خيم الظلام، خاصةً وأني أدركت أن حياتي في خطر بوجود هذا الاقتتال العبثي. سرت مسرعاً وأنا احتمي بالجدران، حتى وصلت المعبر الحدودي. منعني الجنود الأتراك من العبور، ما اضطرني إلى أن أبتعد وأدخل خلسة عبر الأسلاك الشائكة. عندما وصلت إلى الجانب التركي من الحدود، التفتّ إلى مدينتي وودعتها، وكنت لا أزال قادراً على اشتمام رائحتها. بقيت في نفسي ذرة أمل في أن أعود إلى رأس العين، مهما طال بعدي عنها.