ثأر شخصي مع النظام
test description in arabic
"test quote in arabic"
عندما بدأت الثورة، أعلنت منذ اليوم الأول موقفي المؤيد لها. حينها كانت لا تزال الرؤية ضبابية لدى الكثيرين، وأغلبهم كان تحت تأثير الصدمة. سمعت الكثير من الانتقادات على موقفي، وعلى تأييدي للمظاهرات. وكنت أرد دائماً بالقول: “لدي ثأر شخصي مع هذا النظام”. قلّة يعرفون قصة هذا الثأر.
بدأت الحكاية عندما كنت أدرس في جامعة دمشق. تعرّفت إلى شاب أحببته وأحبّني، وبعد حب دام سنتين قررنا الارتباط. اتصل مازن بوالدي وطلب موعداً، كان هذا في العام 2006. واعترفت لوالدي الذي طالما كان منفتحاً بأني على معرفة بالشاب، وأني أريد الارتباط به. فكان رد أبي بأني لست صغيرة، وأنني المسؤولة عن اختياري، لذا لن يقف في وجهي.
كان أهل مازن يعرفون أننا على علاقة، وأن هذه الخطبة هي خطوة لإنجاح هذه العلاقة وليست بدايتها. وبما أن الطرفين كانا على علم بالموضوع، قررنا أنا ومازن أن يكون الموعد الذي طلبه من والدي هو موعد الخطوبة، وأخبرنا أهلنا بذلك، فبارك الطرفان. وعل هذا الأساس قمنا بشراء المحابس، وكان كل شيء جاهزاً.
وقبل الموعد بعدة أيام، وقع شجار بيني وبين مازن، كأي شجار يقع بين شاب وفتاة بحكم المخطوبين. وكان من عادته حين نتشاجر أن يتصل بي فور وصوله المنزل. لم يتصل يومها، وظننت أنه انشغل. في اليوم التالي لم يتصل أيضاً، فقلت في نفسي أنه لن يتصل قبل يوم الموعد، لتكون المصالحة هذه المرة مميزة. ولما جاء اليوم الموعود، الذي كنا قد اتفقنا عليه قبل أسبوعين، لم يأتِ ولم يتصل. كنت في موقف حرج للغاية أمام أهلي. شعرت بأنني خذلت ثقتهم، فالشاب الذي أريده تهرّب عند أول موقف. اعتذرت من أبي وأمي، وأمضيت ليلة لم تجف فيها دموعي، فكّرت كثيراً ما الذي يمكن أن يكون عائقاً لحضوره وأهله، لم أجد أي مبرر أو عذر لعدم اتصالهم حتى. قررت في النهاية أن أنسى هذه التجربة المرة، وألّا ألتفت للأمر، وألا أفكّر بمازن ثانية مهما كان عذره الذي لا بد أني سأعرفه.
أمضيت الأيام بعدها وأنا أحاول أن ألملم الجرح. أحاول أن أنشغل بين العمل والدراسة وبعض النشاطات الجانبية، فوقت الفراغ كان قاتلاً، لأني أتذكر به ما حدث، أتذكر أكبر خذلان مررت به من شخص أحبه.
وفي إحدى الأمسيات، وكانت بعد أربعة أشهر من الموعد، كنت أجلس مع أهلي نتبادل أطراف الحديث، وكان أبي يتابع قناة ال ANN التي كنت أعارض متابعته لها لأنها تتبع أجندة أقذر من النظام، فهي تابعة لرفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد الذي عاث في سوريا فساداً في الثمانينات وتم نفيه من قبل رأس النظام حينها حافظ الأسد لخلافات شخصية بينهما. ورغم أن أبي يعرف خلفية هذه القناة، لكنه كان يشاهدها ليرى الوجه الآخر للنظام الذي نعرفه. في تلك الليلة، وأثناء الحديث مع أمي، لمحت بعيني اسم مازن في شريط الأخبار على القناة المذكورة. لم أقرأ الخبر، وظننت أني أتوهم، فراقبت الشريط إلى أن تكرر الخبر ثانية: “النظام السوري يعتقل عدداً من الناشطين في دمشق” وذكر الخبر 7 أسماء بينها إسم مازن!
في تلك الفترة من عام 2006، طالت حملة اعتقالات واسعة الكثير من الشباب السوريين، وتوجهت لهم تهم تتعلق بالاتصال بجهات معادية، والخوض بقضايا تمسّ أمن الدولة، والنيل من هيبة سيادته، وغيرها من التهم التي تحمل في ظاهرها جرائم كبرى، وفي الحقيقة ما هي إلا تلفيقات باطلة لمن سوّلت له نفسه أن يتفوّه بكلمة تناهض السلطة الحاكمة.
حين شاهدت الخبر، شهقت بصوت عالٍ، وسالت الدموع من عينيّ مباشرة. تساءل أهلي ما الذي حدث لي فجأة. لم أستطع أن أتفوّه بكلمة، وانتهى الموقف بمغادرتي غرفة الجلوس إلى غرفتي. وظل أهلي يحلّلون الموقف إلى أن تبينوا الأمر بعد قراءتهم شريط الأخبار.
كان الليل طويلاً، فكّرت كثيراً: ما الجريمة التي اقترفها حتى يُعتقَل؟ حلم بالحرية؟ وهل يكفي أن نحلم، لنكون معتقلين في سجون لا ندري إن كنّا سنخرج منها؟ أعادتني الصدمة إلى صدمتي الأولى، هل أتصل بأهله لأفهم ما الذي حدث؟ كيف أتصل وقد فعل بي ما فعل؟ ولكن، ماذا لو كان قد اعتقل قبل موعد خطوبتنا؟ أيعقل أنني ظلمته؟
وفي الصباح الباكر، خرجت من المنزل إلى الجامعة، وفي الطريق اتصلت بأخته من الهواتف التي كانت حينها في الشارع، والتي كانت تسمى “براق”. ردت أخته على هاتفها، فسألتها عن مازن، قالت إنه مسافر. قلت لها: “ما بدي كتّر حكي، صحيح الخبر اللي سمعتو؟”. فأكدت لي الخبر الذي وقع قبل ثلاثة أيام من خطوبتنا، واعتذرت كثيراً عما حدث، وعن الموقف الذي كنت به أمام أهلي، ولكن المصيبة أعمت عيونهم وقلوبهم حينها، وفاتهم أن يتصلوا ويعتذروا بسبب غياب (أو تغييب) ابنهم المفاجئ. وأخبرتني يومها أنهم لا يعلمون مكانه بعد، ولا يعرفون سوى أنهم جاؤوا واعتقلوه من المنزل بملابسه الداخلية، ولم يسمحوا له حتى بارتداء ثيابه.
بعد تسعة شهور، عرفنا أن مازن معتقل من قبل أمن الدولة بسبب بعض التعليقات على إحدى المدوّنات. ووكّل أهله له محامٍ كي تتم محاكمته على الأقل، ولا يذهب كغيره مع الريح دون محاكمة حتى. وبعد سنة ونصف، وبعد توجيه (أو تلفيق) حوالي العشر تهم له، حُكم مازن بالسجن (المؤقت) ست سنوات. ولم نكن نعرف ما المقصود بـ (مؤقت)، ولم تكن هناك أي ضمانة على خروجه بعد إنهاء محكوميته. ولكن رغم ذلك، قررت انتظاره، والمجازفة بست سنوات من حياتي!
هذه السنوات الست، أضاعها النظام السوري من عمري باعتقال مازن، فكيف أنسى ذلك؟ وكيف لا أشارك في ثورة الشعب أنا التي لدي ثأر شخصي مع هذا النظام؟
سلام الصغير (35 عاماً) تعمل كمعلمة، تركت دمشق في العام 2014 وتقيم حالياً في ألمانيا.