النزاع الدائر يهدد الصحة الإنجابية
مريم عبدالله
بينما تحتفل إحدى العائلات النازحة في مركز مخصص للاجئين بزواج ابنهم، على وقع أصوات القصف والرصاص، كانت الزوجة الثانية لوالد العريس، أم مصطفى ذات الستة والعشرين عاماً، تشكو وضعها الصحي لإحدى المشرفات. فقد علمتُ لاحقاً بحملها الثالث، وأن وضعها الصحي المتردي بسبب الولادة السابقة وخوفها من الحرب، بالإضافة إلى الهروب الدائم، قد يودي بها إلى الموت أو فقدان الجنين.
أم مصطفى هي واحدة من النساء العديدات اللواتي يعانين من ظروف سيئة تؤثر على صحتهن الإنجابية. بعد أن كانت هذه المشكلة قبل بداية الأحداث في سوريا تتعلق بنقص المراكز الصحية، ومحدودية طرق التوعية والقوانين القاصرة، تفاقمت اليوم بسبب النزاع المسلح؛ فلم تعد تلك المراكز موجودة أو أصبح الوصول إليها صعباً، في وقت تزداد فيه المشاكل النفسية والجسدية الناتجة عن الحرب.
قمت مؤخراً بزيارة عدد من المراكز الصحية التي أقيمت تحت إشراف “الهيئة الطبية الدولية” وأخرى تشرف عليها “جمعية تنظيم الأسرة السورية” والتي تقدم خدماتها بشكل شبه مجاني، ولفت نظري العدد الكبير من النساء النازحات اللواتي يتردّدن على تلك المراكز. يذكر الأطباء العاملون في هذه المراكز أن هؤلاء النساء يعانين من الاكتئاب، بالإضافة إلى عدم تمكنهنّ من الحصول على وسائل منع الحمل، كما ظهرت عدة حالات من الإجهاض غير الآمن، وهي ممارسة تؤدي في كثير من الأحيان إلى موت الأم أو إصابة الجنين بتشوّهات تؤدي إلى إعاقات دائمة بعد فشل الإجهاض، وهذا ما أكدته احدى الطبيبات متلمسة الخطر الكارثي المتوقع جرّاء زيادة الأسباب المؤدية لوفيات الأمهات والحمل غير المرغوب.
يأتي تفاقم هذه المشاكل بعد أن بدأت ظروف الصحة الانجابية تتحسّن في السنوات الماضية،
حيث يشير تقرير بعنوان “إتجاهات الوفاة الأمومية: 1990-2010” الصادر العام 2012 عن الأمم المتحدة، أن سوريا نجحت في تخفيض معدل الوفيات الأمومية من 240 حالة لكل مئة ألف ولادة حية في العام 1990 إلى 70 حالة في العام 2010، أي بمعدل 70 بالمئة. تكون سوريا قد قطعت بذلك شوطاً كبيراً باتجاه تحقيق الهدف الذي وضعه برنامج “الأهداف الإنمائية للألفية” التابع للأمم المتحدة، والذي يقضي بتخفيض هذه الوفيات في كل دول العالم بنسبة 75 بالمئة. وتعدُّ النسبة التي حققتها سوريا مرتفعة بالقياس مع النسبة الإجمالية التي حققتها دول غرب آسيا في هذه الفترة، بحسب التقرير نفسه، والتي بلغت 57 بالمئة. إلا أن الأرقام عن ظاهرة الوفاة الأمومية خلال الأزمة في سوريا التي بدأت العام 2011 غير متوفرة، وهناك احتمال كبير أن يكون النجاح في مكافحة هذه الظاهرة قد هُدم بسبب الصراع المسلح الحالي.
الحاجة إلى خطة عمل طارئة
بالإضافة إلى ضرورة بذل الجهود حالياً من أجل تقديم المساعدة الطبية إلى النساء السوريات في المناطق التي تشهد قتالاً، أو تستضيف أعداداً كبيرة من النازحين، تبرز الحاجة إلى وضع خطة عمل طويلة الأمد، تهدف إلى تحسين صحة النساء الإنجابية بعد توقف القتال.
أولاً، لا بد من زيادة عدد المراكز الصحية المجانية التي تقدم خدمات طبية للنساء الحوامل، بالإضافة إلى تفعيل المراكز القائمة، لا سيما في المناطق الريفية. فقد بيّن مسح سريع قدّم في خطة عمل البرنامج القطري لـ”صندوق الأمم المتحدة للسكان” عام2011 لعيّنات عشوائية من المراكز الصحية في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور، وهي تعد من المناطق المهمّشة، أن 20 بالمئة فقط تقدم خدمات للمرأة الحامل.
ما نحتاجه أيضاً هو زيادة وعي الأسرة بمفهوم الصحة الإنجابية، وتنطلق هذه العملية من المناهج الدراسية ووسائل الاعلام وصولاً الى جميع المراكز الصحية. ويتعلق جزء كبير من تحسين صحة النساء الإنجابية بالممارسات السائدة، إذ يشير “المسح الصحي الأُسري” الصادر عن “المكتب المركزي للإحصاء” أن نسبة خصوبة النساء في المرحلة العمرية بين 15 و19 عاماً ازدادت بين العامين 2001 و2009 بنسبة 0,9 بالمئة، ويربط التقرير بين حمل النساء ما دون العشرين عاماً وتدهور صحة كل من الأمهات وأطفالهنّ.
كما أن هناك حاجة إلى تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لإنهاء التمييز ضد المرأة “سيداو” التي صادقت عليها سوريا، لا سيما التشديد على المادة 12 الخاصة بالرعاية الصحية وتخطيط الأسرة، وهو ما يجب أن يترجم عبر إلغاء المادتين 523 و524 من قانون العقوبات، اللتين تعاقبان على تداول وسائط منع الحمل أو بيعها.
كما أن هناك ضرورة لاصدار قانون الأمومة الآمنة، وهو قانون تسعى منظمات المجتمع المدني في أكثر من دولة عربية إلى إقراره. من المفترض أن يتضمن هذا القانون نصوصاً واجبة التطبيق، تستهدف خفض وفيات الأمهات ومعدلات الأمراض التي يعانين منها أثناء الحمل والولادة وما بعدها. كما يجب أن تستهدف هذه النصوص خفض معدلات كلّ من الإسقاط (أو الإجهاض اللاإرادي) والولادات قبل أوانها الطبيعي، عبر التشديد على توفير الرعاية الصحية للأمهات والأجنة في بطونهن وبعد ولادتهم، بما يكفل سلامة الأمهات والمواليد وطبقاً للمعايير والمواصفات الطبية المعتمدة. من المفترض أن يكفل هذا القانون حقوق المرأة وطفلها في الرعاية الصحية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية التي وقعّت عليها سوريا، كما يجب أن ينصّ أيضاً على أن توفير الرعاية الصحية للمرأة هو حق لها، وليس منحة.