المواطن يجوع أيضاً!

رزان زيتونة

أعلنت مؤخراً المفوضية الأوروبية “عروضاً” للمساعدة في “مشاريع لدعم السوريين المتضررين من الأزمة.” تهدف المشاريع إلى بناء المجتمع المدني وبناء القدرات وتعزيز الديمقراطية وحرية الصحافة! وهذا العرض هو واحد من سلسلة طويلة من العروض الأوروبية للسوريين من أجل مرحلة بناء المجتمع في سوريا ما بعد الأسد. تبدو العروض سخية وحريصة على مستقبل سوريا وبناء قدرات أبنائها وتعزيزها، لولا مشكلة صغيرة: فإلى جانب التحضير المهم لمرحلة البناء لما بعد الأسد، هناك الأهم، وهو التعامل مع ما يحدث حالياً ويومياً. وسندع الجانب السياسي جانباً، ولنكتفي بالحديث عمّا يسببه هذا الواقع من أزمات وتعقيدات تصعب معالجتها يوماً بعد يوم: عن مئات آلاف النازحين والمشردين في الداخل؛ عن الانقطاع المستمر للكهرباء والوقود في فصل الشتاء؛ عن واقع الجوع والبرد وفقدان مادة الطحين واضطرار السوريين إلى تناول الكيك كبديل عن الخبز، عملاً بنصيحة الملكة ماري انطوانيت الشهيرة!

إعلان يدعو من خلاله "برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إلى التبرع لتأمين مساعدات غذائية للسوريين - موقع "برنامج الأغذية العالمي"
إعلان يدعو من خلاله “برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة إلى التبرع لتأمين مساعدات غذائية للسوريين – موقع “برنامج الأغذية العالمي”

فالحكومات الأوروبية والغربية عموماً، وفيما عدا استثناءات قليلة تأتي فرنسا في مقدمتها، والولايات المتحدة مؤخراً- وبمبالغ لاتزال متواضعة جداً قياساً مع حجم الأزمة- لم تساهم ولو بشكل خجول في التعامل مع الأزمة الانسانية الخانقة التي يعيشها ملايين السوريين النازحين في الداخل واللاجئين في الخارج. ولا تعنينا بشيء الأرقام المعلنة رسمياً التي صرف معظمها عبر المنظمات الدولية، ومنها ليد النظام أو قنواته الخاصة. ولن نتحدث عن فساد المنظمات الدولية وبيروقراطيتها. بل يكفي اعترافها بعجزها عن الوصول إلى أكثر المناطق تضرراً بسبب الأوضاع الأمنية فيها، وبالتالي حرمان جميع سكان تلك المناطق من أية مساعدات إنسانية.

في حديث مع مسؤولة في منظمة “الصليب الأحمر الدولي” في دمشق منذ أشهر، سألتها عن العديد من المناطق التي تحتاج إلى مساعدات عاجلة. وكانت الإجابة أن تلك المناطق “خطرة” جدا عليهم، وأنهم آسفون لأن مستودعاتهم ممتلئة بالمواد الغذائية والبطانيات ولا يستطيعون إيصالها إلى من يحتاجها!

وإذا وافقنا جدلاً على أنّ العقبة الوحيدة للمساعدة في الداخل هي تعذر الوصول إلى المحتاجين، فماذا عن اللاجئين في الدول المجاورة؟ ماذا عن كارثة الزعتري وسواها؟!

الحكومات الأوروبية تفضل العمل على مرحلة ما بعد الأسد، بمتوسط مئة ألف يورو للمشروع، لتدريب عدد من الكوادر ودفع رواتب عدد من الموظفين للمشروع. أي بما يكفي لشراء أكثر من أربعة آلاف سلة غذائية تغطي احتياجات أربعة آلاف عائلة لشهر كامل!

هذا إذا لم نتحدث عن غياب دعم دور  السوريين في الإغاثة، عبر إضعاف ممثليهم السياسيين  في “المجلس الوطني” ومن بعده الائتلاف، وإفقاد هاتين الهيئتين ثقة الناس بهما. ليس على جدول أولويات معظم الحكومات الغربية دعم قيادة سياسية للثورة وتقويتها، وليس على جدول أولوياتها إغاثة المنكوبين وجلّهم من النساء والأطفال. ولكن، يأتي في قمة أولوياتها ضمان بناء مجتمع مدني قوي ما بعد الأسد!

يبدو أن الحكومات الغربية لا تعي انعكاس ذلك كله على السوريين. ويبدو أنها تحمل أوهاماً بأنّ مشاريعها الصغيرة قد توقف اقتتالاً طائفياً في المستقبل، أو تجعل السوريّين ينسون معاناة والسنتين أحقادها وتخاذل العالم تجاههم. لن تجدي المراكز التي يسعون الآن لإنشائها للتعامل مع ما تراكم من غضب وكراهية ودماء وجوع وبرد. ولن تفيد دروس الديمقراطية والدورات التدريبية في المستقبل بإعادة بناء ما تهدم من ثقة وإيمان بتلك القيم التي يرغبون بشدة تلقيننا إياها عبر مشاريعهم. من أين أتت لتلك الحكومات فكرة أن “المواطن” كائن شبعان ولا يشعر بالبرد؟!

كان بإمكان حكومات الغرب على الأقل التعويض في الجانب الإنساني والإغاثي بعد أن خذلت الثورة سياسياً. أما أن تتجاهل ذلك كله وتكتفي بالتركيز على تعليمنا معنى الديمقراطية وحقوق الانسان عبر مشاريعها وعروضها اللامنتهية، فهو قمة…الغرابة. لا يزيد من غرابة الأمر قيام الأمم المتحدة مؤخراً بالتعاون مع نظام يفترض أنه متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، لتوزيع مساعدات إنسانية على المتضررين.هذا لا ينتهك في شيء مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان لدى حكومات تلك المنظمة الدولية… أو ربما مازلنا بحاجة إلى الكثير من “التثقيف” الحقوقي والمدني قبل أن نعي ألمعية السلوك الغربي.