الحرية المعلّقة على جناح فراشة أو ساق صرصور
لم أكن أعلم الكثير من التفاصيل المتعلقة بالخرافات والإعتقاد بها. وكوني أميل للتفسير العلمي للأشياء من حولي كان غريباً بالنسبة لي أن انسجم مع ألعاب القدر وإشاراته إلى أن تم اعتقالي في نيسان/أبريل 2013 في دمشق، ودخولي إلى جحيم فرع فلسطين، ووجودي بين معتقلات كن يمتهنّ الأمل بأصغر التفاصيل وأكثرها غرابة.
بداية كان الموضوع بالنسبة لي مضحكاً، بعد مرورو الأيام في جحيم الزنزانة، بدأت أشعر بثقل التفكير المنطقي وفشله في دعمي. وبدأت أصغي للخرافات، وأراقب تفاصيل غريبة لأبحث عن دلالاتها وعلاقتها بعدد الأيام الباقية لي في هذا الجحيم.
ما هي دلالات وجود حشرات في رغيف الخبز الخاص بي؟ أو مرور صراصير فوق فراشي؟ أو طنين أذني؟ أو رفّة لا إرادية لعينيّ؟
لن تدرك تماماً ما يعانيه المعتقلون من إحباط ويأس، وشعورهم بأنهم القربان لما حدث، وكسر أملهم بالعودة للحياة مجدداً. أو أن تعرف تماما الجو العام في المعتقلات، والأدرينالين المتواتر على مدار الساعة. القلق والأرق والخوف والانتظار والأمل والترجي والتوسّل للمجهول، أو الله.
أمل معلّق على إشارات وهمية لا يدركها العالم خارج هذا الجحيم. كأن تعلّق حلماً ويقيناً على جناح فراشة شاردة دخلت الزنزانة، أو على قدمي صرصور مرّ على قطعة خبز أحدهم، أو أن تنتعل مؤشراً آخر للخلاص بعد أن تركب إحدى فردتي الحذاء الفردة الأخرى. أو أن تطن أذنك اليمنى فتبدأ بذكر أسماء تعتقد أنهم في هذه اللحظة يتحدثون عن إنقاذك فيتوقف الطنين، ليرقص قلبك بوهم آخر.
أو أن تمد كف يدك اليسرى لكل من يدّعي أنه يجيد قراءتها، ويبدأ يسرد لك ما تحتاجه ليسكن الأمل فيك. كأن يخبرك أنك ستسمع خبرا جيداً بعد إشارتين، ربما دقيقتين أو ساعتين أو أسبوعين أو شهرين. فتقاطعه بأي تفصيل آخر كي لا يسترسل بإبعاد الإشارتين أكثر. وتبدأ من جديد انتظاراً مفتوحاً للإشارات.
لا يمكن لمن لم يعش في هذا الجحيم، حتى ولو لساعة أن يدرك أين وكيف يمتهن السجين عالم تفسير الإشارات، ودلالات كل تفصيل.
لا شيء هنا يجري دون سبب أو مؤشر لحدث ما. لا حدث ولا تفصيل عشوائي ولا شيء يمر هنا دون معنى.
دلالات ابتسامة عابرة للسجان. أو تواتر صوته. دلالات تغير موعد الخروج للحمام . تغير توقيت التعذيب. سرعة الحركة خارج الزنزانة أو بطئها. زيادة الأصوات خارج الزنزانة أو تناقصها. ارتداء السجانين اليوم للثياب المدنية أو العسكرية. نوع الوجبة والرائحة والكمية. مزاج السجانين، غياب أحدهم. تغير نغمات الموبايل، استخدام الخرطوم الطري أو العصا البلاستيكية. لون الملف بيد المحقق، الورق الأبيض أو المخطط.
الحرية لمن يعلّق حلمه وإنسانيته يومياً على جناح فراشة، وساق صرصور. وينتظر إشارات من حذاء أو أي حشرة عابرة. الحرية لمن قدّم نفسه قرباناً للعدم.