الجنسية حق لا يسلب

أنا سوري أباً عن جد، عمري 30 سنة ولكن لم أحصل على الجنسية السورية إلا مؤخراً، بعد أن أصدر الرئيس بشار الاسد في شهر نيسان/أبريل الماضي مرسوماً أعاد بموجبه الجنسية “للأجانب” الأكراد السوريين. بناء على مرسوم آخر صدر عام 1962 كان قد حرم ما بين 125 حتى 150 ألف كردي من الجنسية السورية إثر عملية إحصاء جرت ليوم واحد في محافظة الحسكة، والذي كان بمثابة قرار سياسي يهدف إلى إستئصال وجود الشعب الكردي وتشتيته وحرمانه من كافة حقوقه المدنية في سورية. أنا سليل أحد هؤلاء الأكراد.

عشت في بلدي حياة أجنبي مجرد من أي جنسية. كانت الوثيقة التي نسّير أمورنا بها إخراج قيد كُتب في أعلاه “غير مسموح لوثائق السفر وخارج القطر”. رافقتني هذه الورقة كعار في حياتي اليومية. فقد منعتني من حق التوظيف وأجبرتني على أن أتابع معيشتي في أزقة المدن بعيداً عن طموحي الدراسي. كما لم تكن الناحية النفسية بمنأى عن معاناتي. فلم أكن أرى نفسي مثل أي مواطن عادي. لا استطيع التفكير في بناء مستقبل وكل حياتي منذ صغري تتطلب موافقات أمنية. حتى الأمنية في عيش رغيد لم يكن من حقي أن أحلم به. وكل هذه الامور أثرت على حياتي الاجتماعية. أصبحت أحس بالتمييز عن زملائي، ربما لأنه سيكون أمامهم فرص في التوظيف أو السفر التي أنا محروم منها أصلاً. وربما كانت أسوء حالاتي عندما كنت أفكر بالارتباط والزواج، حيث لا أحد يتجرأ أن يقوم بتزويجي من ابنته خشيةً على مستقبلها ومستقبل أطفالها الذين سيكونون مجردين من الجنسية دون ذنب مسبق فقط لأنهم ولدوا لأب مجرد من حقوقه المدنية. عدم امتلاكي الهوية السورية منعني من السفر إلى الخارج. بالإضافة إلى عدم استطاعتي أن أنقل أي عقار أو ملكية إلى اسمي، لأنني لا أملك ثبوتيات الجنسية السورية. كانت الناس تنظر إلينا بنظرة شفقة. وعملت السلطة على تضييق الخناق علينا كأكراد بشكل عام والمجردين منا بشكل خاص من خلال المرسوم رقم 49 لعام 2008 الذي حرمنا من بيع وشراء واستملاك الأراضي. كما تم حرماننا كمجردين من العلاج في المستشفيات الحكومية، وكان آخرها منع المعالجة في مشفى “البيروني الجامعي للأمراض السرطانية” والمجاني بدمشق.

هناك الكثير من التجارب المماثلة في محافظة الحسكة. السيد ع.ش. على سبيل المثال يبلغ من العمر 45 عام غير متزوج يقول عن معاناته: “أنا خريج كلية الحقوق لكن النقابة لا تعترف بوجودي وشهادتي الجامعية. لذا أقوم بأعمال حرة شاقة مثل الحمل والعتالة تارة وأحياناً أعمل دهاناً، كصانع تحت إمرة معلم يسيرني كيفما يشاء وكل هذا في سبيل البحث عن لقمة العيش. كان حلمي أن تعاد لي جنسيتي التي سلبت مني والآن تحقق هذا الشيء بعد أن أصبحت كاهلاُ. ولكن فرحتي ليست لي بقدر ما أنها فرحة أجيال حرمت وكانت ستبقى محرومة من هذه الجنسية. بالفعل إن إعادة الجنسية سيكون لها أثراً كبيراً على شبابنا القادم وخاصةً أصحاب الشهادات وستكون أحلامهم محققة على الأقل ليس مثلي الذي لم يستطع الإرتباط حتى الآن”.

السيد م.أ. مزارع يقول: “أنهيت خدمة العلم في العام 1962 ولكنني جردت من جنسيتي في نفس العام وأملك دفتر العائلة والوثائق التي تثبت أنني سوري حتى العظم. أجد معاناة كبيرة كوني أعمل في أرض زراعية ولا أستطيع تسيير معاملاتي من استجرار أسمدة وبذور. وحتى منزلي الذي أملكه ليس باسمي لأنني مجرد من الجنسية. بعد قرار إعادة الجنسية سيصبح لدي الحق بالاستملاك والعمل بأريحية دون تدخلات أمنية أو موافقات تتطلب الانتظار لشهور وسنوات”.

السيد م.د. معتقل سياسي سابق ومجرد من الجنسية يقول: “بما أنني واحد من ضحايا الإحصاء الاستثنائي فإنني أعاني مرارة الحرمان. حيث أن عائلتي موجودة في الجزيرة السورية أباً عن جد. ولم نأت من أي مكان آخر كما كانت تدعي الحكومة بل ولم نترك أو نغادر البلاد نهائياً ولو لفترة قصيرة جداً. كان زواجي من مواطنة سورية سبباً في جعل أولادي مكتومي القيد أي لا يتمتعون حتى بصورة إخراج قيد التي تثبت هويتهم، ليكونوا ممنوعين حتى من متابعة تعليمهم بعد المرحلة الإعدادية. لقد كنا محرومين من تسجيل أي شيء بأسمائنا في السجلات العقارية لأننا لو سجلنا أي شيء بأسماء المجردين من الجنسية فيعتبر ذلك من أملاك الدولة. أما إذا كان ذلك “الشيء” امرأة أي زوجة فألا تعتبر هي أيضا من أملاك الدولة؟ علماً بأن الأملاك فقط يتم تسجيلها أما بالنسبة للزواج فلا يتم تسجيله نهائياً فيبقى الزواج زواجاً دينياً حصراً ولا يكتسب الصفة القانونية”.

يشير م.د. أيضاً إلى عدم تمكنه من العمل في المؤسسات الحكومية وفي جميع المحلات الصناعية والتجارية الخاصة، لأن العمل في القطاع الخاص يتطلب أيضاً موافقة أمنية وبطاقة عمل من دائرة الشؤون الاجتماعية.

إن كل هذه الإجراءات التي عانى منها الأكراد المجردون من الجنسية خلال العقود الماضية أضعفت سكان المنطقة اقتصادياً وهمشتهم اجتماعياً سياسياً وولّدت حالة من الحقد والاحتقان الإثني. فالمواطنة حقٌ مشروع ومكفول للفرد في كل انحاء العالم وهي جزء أساسي من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما يكفل الدستور السوري هذا الحق ويضع شروطاً يستوفيها الأكراد بشكل كامل. الربيع العربي وثورة الكرامة السورية، جعلت السلطة تعيد حساباتها. فأصدر الرئيس بشار الاسد المرسوم رقم 49 لعام 2011 والذي بموجبه أعاد الجنسية “للأجانب” الأكراد السوريين. وشمل هذا المرسوم الأجانب المجردين من الجنسية فقط والذي يبلغ عددهم نصف مليون كردي تقريبا، وتجاهل “مكتومي القيد” الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا لأب مجرد من الجنسية وأم مواطنة. فقد توقف تسجيلهم منذ عام 1983 ليبلغ عددهم قرابة 50 ألف. ووضعهم أسوأ من الأجانب، فليس لديهم أي إثبات على وجودهم سوى أوراق يقوم بمنحهم إياها مخاتير الأحياء. كما أنهم ليسوا مسجلين في السجلات المدنية على عكس الأجانب المجردين الذين كرمتهم السجلات المدنية بالتسجيل.

نصف المجردين من الجنسية، بينهم أنا، حصلوا على هوية سورية، بينما لم يتمكن الباقي من تسوية أمورهم حتى الآن. ويعود ذلك إلى أسباب تقنية احياناً ومزاجية من قبل الموظفين المسؤولين أحياناً أخرى حتى أصبح سعر كل هوية ألف ليرة سورية. وهناك العديد من العائلات الفقيرة التي لا تملك “ثمن” الهوية. ولم أفلح بعد في استصدار جواز سفر سوري. فلا تُمنح جوازات سفر للرجال تحت سن الثانية والأربعين، ربما لعدم تسوية وضع من هم تحت هذا السن لخدمة العلم. كما لم يتضح حتى الآن وضع الجامعيين منهم في التوظيف لدى الحكومة. رغم كل ذلك فإن المرسوم الأخير فاتحة خير لكل مجرد من الجنسية ويستطيع الآن التفكير بمستقبله.