البطالة والنزوح يثقلان كاهل المواطن السوري
يقف حكيم مكتئباً أمام باب الشقة التي يقطنها وهو ينفث دخان سيجارته قائلاً: “الوضع بات صعباً جداً!” كان الشاب يعمل في أحد مراكز رعاية ذوي الإحتياجات الخاصة الكائنة في الغوطة الشرقية، لكن هذا المركز أغلق أبوابه نتيجة القصف والإجتياحات العسكرية والإشتباكات التي تعم معظم أرجاء ريف دمشق. إستقر حكيم في ريف دمشق قبل عدة سنوات بغرض الدراسة قادماً من مدينة الحسكة، ثم استقر نهائياً بعد زواجه من زميلة له في الجامعة وأنجب طفلاً منها قبل ستة أشهر.
يمضي حكيم جُلّ وقته الآن في رعاية إبنه الصغير بينما تعمل زوجته في مركز لبيع الأغذية وهذا ما يشكل عبئا اقتصاديا ونفسيا عليه. فهو يشعر بأنه ملزم بإعالة أسرته الصغيرة ولكنه غير قادر على ذلك حالياً. كما تأثر نشاط حكيم ضمن الثورة السورية أيضاً. فقد كان يحرص سابقاً على المشاركة في فعاليات الثورة، أما الآن فقد قل نشاطه السياسي وبات إسهامه ضمن الثورة محصوراً في تواصلات محدودة مع بعض الناشطين. فالمعيشة وهمومها مبعث قلق دائم. يقول حكيم راسماً ابتسامة صفراء على شفاهه: “حين تحتار في تدبير مصاريفك اليومية يغدو الإنخراط بقوة في الشأن العام مغامرة كبرى.”
إزدادت المصاعب الإقتصادية التي تثقل كاهل المواطن السوري نتيجة احتداد الأزمة السياسية في البلاد وتأثيرها على كامل مجالات الحياة. لا توجد إحصائيات سورية رسمية توثق التطورات الأخيرة في سوق العمل. يذكر تقرير يعود إلى أكثر من سنة أصدره كل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية في حزيران/يونيو 2011 يتناول واقع سوق العمل السورية ويذكر أنّ نسبة البطالة بلغت 8.4 % في عام 2010 . إلا أنّ وزير الشؤون الإجتماعية والعمل رضوان الحبيب صرّح لصحيفة الوطن السورية في شهر آذار/مارس 2012 أنّ معدل البطالة في سوريا قد وصل إلى 14.8%.
يعاني الكثير من السوريين ليس من البطالة فحسب بل أيضاً من حالة نزوح أُجبروا عليها نتيجة العمليات العسكرية في المدن والبلدات المختلفة. محمد، مثلاً، كان يعمل حلاقاً في حي باب السباع بحمص. تعرض محل الحلاقة الخاص به لشظايا قذيفة حطمت واجهته. أما أهله فقد استُعملوا كدروع بشرية من قبل الجيش السوري النظامي. يقول محمد: “سارت أختي وبنات عمي ووالدتهنّ ومثلهنّ العشرات من النساء والأطفال أمام الجنود مدة ساعتين في قلب حمص حتى تم إخلاء سبيلهن.” وكانت منظمة هيومان رايتس واتش قد نشرت تقريراً في شهر آذار/مارس الماضي عن استخدام الجيش للمدنيين كدروع بشرية في محافظة إدلب.
يعيش محمد الآن مرارة النزوح مع أهله في عدرا بريف دمشق. وقد كان الشاب يأمل في جمع مبلغ يكفيه لتأمين مصاريف زواجه قبيل الثورة والآن بات حلمه مستحيلاً على المدى المنظور. يبحث الحلاق في عدرا عن أي عمل يقوم به لقاء أجر بسيط. لحسن حظه يتكفل تاجر من دمشق بأجرة البيت الذي يقطنه مع أهله وبمصروف في حدود الكفاف.
ينعكس الوضع الأمني وممارسات الأجهزة الأمنية سلباً على الحياة الاقتصادية اليومية، حتى وإن قرر البعض الصمود في أماكن سكنهم وعملهم. الظروف التي يعيشها عرفان في دوما مثال على ذلك. عرفان، وهو متعهد بناء بالغ من العمر 42 عاماً، يخفض صوته عند الحديث عن احتلال مكتبه الذي بدأ بتجهيزه بعد اندلاع الثورة بأسبوع من قبل عناصر الأمن الذين اختاروا موقعه لأنه يشرف على تقاطع طرق رئيسية في دوما. وهو الآن يتابع عمله في مكتب جديد استأجره منذ شهرين. ويخشى عرفان محاولة استرداد المكتب عن طريق وساطة أو شكوى كونه ينتمي لعائلة فيها عدد من المنتسبين للجيش الحر. فمجرد ذكر اسم العائلة قد يكون سبباً في اعتقاله أو إهانته. وقد استبيح خلال الأشهر الماضية عدد كبير من الأبنية والأقبية والمتاجر من قبل الجيش وأجهزة الأمن في مختلف المدن السورية حيث تموضعوا داخلها أو استعملوها للمبيت أو تخزين المعدات دون النظر إلى مصالح أصحابها.
لا يتوقع معظم السوريين أن تتحسن الظروف الإقتصادية في بلادهم قريباً، مما يجبر البعض على سلوك طريق سبق وأن سلكوه قبل سنوات، الهجرة من الريف إلى المدينة، ولكن في الإتجاه المعاكس هذه المرة. حسان يفكر جدياً في الرجوع إلى قريته في منطقة دير الزور بعد أن أمضى ست عشرة سنة في عمله ضمن دمشق وريفها. يمضي حسان حالياً وقتاً طويلاً في البحث عن العمل متنقلاً بشكل شبه يومي بين المزة وبيت سحم والمعضمية وجديدة عرطوز طمعاً في إيجاد مشغل يأويه بعد أن فقد عمله كعامل كوي في برزة. إعتقل صاحب المعمل الذي كان يعمل لديه مع أخوين له في إحدى حملات المداهمات اليومية. عامل الكوي مسؤول عن أسرة مكونة من زوجة وطفلين.
أما عدنان، فقد اتخذ قرار العودة وبدأ بتنفيذه. فقد أرجع القبو الذي استأجره في حرستا إلى صاحبه قبل انتهاء عقد الإيجار بشهرين. رجع عدنان إلى مدينته كوباني (عين العرب) ناقلاً ما يقارب خمس عشرة آلة للخياطة إلى محله هناك والذي سبق وأن تركه في ربيع 2002 وهاهو اليوم يقوم بهجرة عكسية بسبب حملات الدهم المستمرة التي يعتمدها الجيش النظامي في حرستا.
تشكل حالات فقدان العمل وعدم الاستقرار نتيجة تأزم الوضع الميداني في مناطق واسعة من سوريا واقعاً مقلقاً لا يمكن التنبؤ بما سيتمخض عنه. فمن المعروف أنّ معظم المساعدات والمعونات التي تصل إلى المناطق المنكوبة تذهب إلى النازحين وأسر الشهداء والمعتقلين ومن النادر وصول هذه المساعدات إلى عوائل فقد معيلوها أعمالهم وهذا ما يجب مراعاته لدى من ينشطون في المجال الإغاثي ولدى مانحي المعونات. فمع استحالة إجراء إحصائيات دقيقة للذين فقدوا عملهم ومصادر أرزاقهم أو أماكن عملهم وعدم قدرة أي منظمة مختصة تتبع شؤونهم نظرا للوضع الأمني المتردي يضاف هذا الملف إلى ملفات كثيرة تلخص في مجملها مأساة الإنسان السوري الذي كثيرا ما يدفع فاتورة حريته من دمه أو من قوت أطفاله.