“لله يا مُحسنين”… التسوّل في زمن الحرب

رغم كبر سنّه إلّا أنه مضطر للتسول تصوير مها الأحمد

رغم كبر سنّه إلّا أنه مضطر للتسول تصوير مها الأحمد

“تفضَّلي يا خالة، إليكِ مائة ليرة”، يقولُ شاب في السوق المزدِّحم بالناس… في المقابل تدعو لهُ غمندار: “حفظك الله ورعاك يا إبني”. الخالة غمندار (60 عاماً) من قرية الجبين في ريف حماة… تجوبُ في شوارع كفرنبل، تطرقُ أبواب الناس، علَّها تجدُ مَن يساعدها بأيِّ شيء يجعلها تعتاش.

 

تبدو غمندار أكبر من عمرها… تجاعيد وجهها ظاهرة بشدّة، لأنها عاصرت حكايات الألم في زمن الحرب. تسرد قصة معاناتها، لكل مَن تريد أن تبرِّر لهُ بخجل، سبب تسوِّلها.

 

في سوريا لم يعد التسوّل أمراً خارجاً عن المألوف بعد ست سنوات من الحرب. أصبح مشهداً عادياً أن يطلب منكَ الناس المساعدة، من كلِّ الأجناس والأعمار. وربما ما يجمع هؤلاء، هو كونهم الفئة الأقل كفاءة، في ظل انعدام فرص العمل، وحرمانهم من أرزاقهم بسبب القصف والأوضاع الأمنية.

 

وتقول غمندار: “لم أكن قبل الحرب متسوّلة… كان زوجي حياً، وأعيش في قريتي الجبين، مرفوعةَ الجبين… كنتُ وعائلتي نعمل في قطاف الثمار، مع أجرٍ يكفينا لأن نعيشَ حياةً مستورة”.

تضيف غمندار بحرقة: “توفيَ زوجي، ونزحت مع إبنتَي إلى قرية شولين في ريف إدلب، بعدما دخلَ جيش النظام إلى قريتي، فتركتُ بيتي بما فيه من أثاث”.

في شولين، لم تجد غمندار عملاً، وهي أُميّة كما تصف نفسها، ليس بإمكانها أن تعرف عن أماكن الجمعيات الخيرية أو كيفية الذهاب إليها… ولذا تطلب من “أهل العطاء” المساعدة لها ولابنتَيها المريضتَين.

 

غلاء الأسعار المتفاقم، الفقر، النزوح المتكرِّر، وازدياد نسبة الأرامل، جعل أعداد المتسوّلين من كافة الأنواع يتضاعف في زمن الحرب في سوريا.

 

ثياب بالية رقيقة تغطي الجسد النحيل لـلفتى مرهف (12 عاماً)، من قرية عين لاروز في ريف إدلب… ملابس لا تقيه من البرد القارس.

نظرة ملؤها القوة والصبر تشع من عينيه السوداوين، رغم ملامح الإنكسار التي تموج على وجهه الصغير… بصوت متقطّع يُنادي: “أعطوني من مالِ الله يا مُحسنين”.

 

يقول مرهف بأنَّ عائلته كبيرة وعدد أخوته يبلغ 12 أخاً وأختاًـ والدا مرهف يطلبان منهُ أن يتسوَّل، للمساعدة في تأمين مصروف العائلة الكبيرة… والوالد يعمل في المهن البسيطة. يتحوّل مرهف من نظرة القوة إلى الحزن، قائلاً: “حين أطلب من أبي أن يعطيني بعض النقود لأشتري شيئاً لي، يقول: لا أملك المال كي أعطيك، ما نجنيه بالكاد يكفيك أنت وإخوتك ثمنَ الخبز”!

 

الأستاذ عبد العزيز (65 عاماً) من كفرنبل، مدرِّس في علم النفس والتربية، ينبّه من تسوُّل الأطفال، ويقول أنهُ خطر جداً، مهما كانت الأسباب والظروف. ويقول: “إنّ توجيه الأهل أولادهم الى العمل، أفضل وأقل ضرراً من توجيههم إلى التسوُّل كوسيلة للعيش… ففي تسوُّل الأطفال، تحطيم لطموحهم، عدا عن أنهُ يُشعرهم بالدونية والنقص”.

 

أم مصطفى (30 عاماً) نازحة من ريف حماه، لديها طفلان من ذوي الإحتياجات الخاصة، وحالتها المادية سيئة جداً. تنكر أن تكون متسولة، وتقول: “أنا أزور البيوت التي أعرفها، وأطلب منهم أشياءً متعددة كالمازوت للتدفئة وبعض المواد الغذائية لطفلَي المُعوقين… ذلك ليس تسوّلاً”.

 

حالة منزل أم مصطفى القديم والمتصدِّع، الذي تتسرب إلى داخله مياه الأمطار من خلال شقوق الجدران، تشهد على حاجتها. تقول أم مصطفى: “راتب زوجي الذي يتقاضاه من الكتيبة التي يُقاتل فيها، لا يكفينا الشهر بأكمله”. وتوضح بأنَّ حالتها المادية كانت جيدة قبل أن تنزح من بيتها في ريف حماة.

 

من جانبٍ آخر، تتواجد لدى بعض الناس، نظرة عدم ثقة بصدق ادعاءات بعض المتسولين… فيمتنعون عن مساعدتهم “لأنهم كاذبون” كما يقول أبو وليد (60 عاماً) الذي يقول لحكايات سوريا: “البعض اتخذَ من التسوُّل عادة ومهنة سهلة للكسب”.

بظهرٍ مُنحني وبحركة بطيئة، يحمل عثمان (65 عاماً) من بلدة بسقلا جنوبي كفرنبل، كيساً قطنياً، ويطلب من الناس المساعدة “بأيِّ شيء”.

مازن (50 عاماً) جارُ عثمان، ينتظر عثمان كي ينصرف ويقول لنا: “هذا الرجل كاذب، وليس بحاجة للمال، بل اتخذ من التسوُّل مهنة، حتى من قبل الثورة… وأمثالهُ يُسيئون للمتسولين الذين هم بحاجة فعلاً في ظل ظروف الحرب وحصار النظام لكثير من المناطق السورية”.

 

وعن صدِّ المتسولين، يتحدّث الشيخ محمد (70 عاماً) من كفرنبل لموقعنا، بالقول: “بحسب الشرع، فإنَّ صدِّ المتسوّل وعدم مساعدته، شيءٌ لا يجوز، خشيةً من أن يكون الشخص مُحتاج فعلاً فتحرمهُ من المساعدة”.

 

من جهة أخرى، يقول سعيد (43 عاماً)، وهو مسؤول في المجلس المحلي في مدينة كفرنبل، بأنَّ الكثير من الجمعيات الخيرية، تتواصل مع المجالس المحلية، لتغطية أكبر عدد من الفقراء. “لكن، هذه المساعدات لا تكفي احتياجات العوائل كاملةً” كما يقول سعيد.

 

عصام (11 عاماً) من بلدة بلين في ريف حماه، يحمل عبوة مشروبات غازية فارغة، ويجوب بها على أبواب المنازل. يطلب من الناس أن يملأوا لهُ زيت الزيتون، فيعود به إلى إخوته. لا يستطيع عصام أن يخفي دموعه، حين يوضح دوافعه، فيقول: “أنا لستُ شحاداً، ولكنني أطلب المساعدة لكي أعيش، لأن بيت جدي تهدَّم بسبب صاروخ طائرة حربية أصابتهُ”.

 

يُضيف عصام: “كان والدي عندهم فتوفي هو أيضاً، فبقينا أنا وإخوتي الصغار وأمي، من دون مدخول ولا معيل يساعدنا”.

عصام رفضَ أن نصوّرهُ، وقال: “لا أُريد أن يصوّرني أحد، كي لا يراني أقربائي على الفيس بوك، فيسخرون مني لأنّي أتسوَّل… فأنا أتسوّل بعيداً عن قريتي”.

 

أبو ماجد (60 عاماً)، أحد التجّار في سوق كفرنبل، يساعد المتسولين ويعطيهم المواد دون مقابل. يتحدّث بحسرة كبيرة ويقول: “لولا الحرب لما ازدادت نسبة المتسولين… معروف عن شعبنا السوري كرامته وعزّة نفسه، لكنّ الحرب دمّرت كلَّ شيء، ويدُنا تبقى مرفوعة لله وحده، علَّ الحرب تنتهي وتعود البلاد لحالها، فيعود أولادنا إلى المدارس، وتعود الأرزاق، ويُرفَع الخناق عنّا، ونتكافَل من أجل كل محتاج في زمن السلم، بدل من مرارة العوَز في زمن الحرب”.