مناضلة في سجن الرجال

أم محمد خلال حفل تكريمها لمناسبة يوم المرأة العالمي في مركز مزايا تصوير غالية الرحال

“كانت الأم الحنون لجميع الأسرى. تداوي الجريح، تساعد المريض، تطعم الجائع، تواسي المنهار وترفع من همة اليائس”. هذه كلمات الأسير المحرّر من سجن المركز الثقافي في معرّة النعمان أحمد التناري (٣٥عاماً)، واصفاً أم محمد (٥٥عاماً) التي كانت معتقلة معهم.

 

أم محمد والدة لخمسة شبان، متوسطة القامة، قوية الشخصية، اجتماعية. تقول أم محمد “وقفت مع الثورة منذ بدايتها لانني شعرت بانها ثورة حق ضد الظلم والقهر والفقر والتجبر، لقد ثار هذا الشعب ضد حاكمه الذي ظلمه وأهانه ولم يصغِِ لصوته ووجعه يوماً”. تشكو أم محمد عدم السماح لولدها البكر محمد ببناء غرفة فوق سطح منزلها، ليتزوج ولا يضطر لدفع إيجار بيت رغم فقره. تتوقف عند حالة جارها أبو مظهر الفقير الذي لم تمنحه السلطات رخصة ليبيع بواسطة بسطة صغيرة لينفق منها على عياله، مشيرة إلى كلفة هذه الرخصة العالية. ويؤلمها منع النظام ابنها رائد من الصلاة، هو مجند إلزامي في الجيش، “وكأن الصلاة حرام وفق شريعتهم”.

 

تصمت أم محمد قليلا ثم تقول “أكثر من ذلك فولدي أحمد (٢٢عاماً) تم اعتقاله لانه حاول الانشقاق في القطيفة في دمشق في ١٢حزيران/يونيو ٢٠١٢. كان يجب أن تقوم الثورة منذ زمن بعيد. صحيح أنها تأخرت ولكن المهم انها قامت فعلا”. وتضيف أم محمد “لم أقف مكتوفة الأيدي، بدأت بمساعدة الثوار، وخاصة العساكر الذين يريدون الانشقاق، على إعتبار أن منزلي كان قريباً من حاجز الحامدية في معرة النعمان. كنت أنسّق مع الثوار والعساكر المنشقين، حيث يقوم هؤلاء العساكر بالإختباء في بيتي فترة من الزمن ثم أهرّبهم مع الثوار إلى بلادهم وإعادتهم إلى مناطقهم. وكان منهم من ينضم الى الجيش الحر وبعضهم الآخر يغادرون إلى أهلهم”.

تؤكد أم محمد انها كانت تشعر بالسعادة وهي تساعد هؤلاء العساكر على الفرار من أيدي أولئك “الظلاميين”. ذات يوم سمعت أم محمد طرقاً على باب منزلها، وإذ بعناصر من دورية تابعة لجيش النظام يأمرونها بالذهاب معهم. سألتهم: إلى اين؟

أجابوها: لن تتأخري إجراء بسيط وسنعيدك لمنزلك.

قالت لقائد الدورية بين جد ومزاح: امسك على شاربك (أقسم بشرفك) بأنك ستعيدني.

ضحك ومسك على شاربه، في إشارة على القسم، وفعلا ذهبت معهم إلى حاجز الحامدية.

تروي أم محمد كيف بدأ قائد الدورية بالتحقيق معها، وسؤالها عن مساعدتها العساكر على الفرار، وكيف أنكرت ذلك قبل أن يأمر بتوقيفها وإحالتها على السجن. قالت له: لقد وعدتني أن تعيدني إلى بيتي ومسكت على شاربك.

ضحك وقال: وماذا يعني ذلك فأنا سأحلق شاربي.

 

دخلت السجن وإذ بشبان كثر في الداخل كانت أوضاعهم سيئة للغاية. وجدتهم جرحى، جياع، مرضى ومنهارين. أنا كنت المرأة الوحيدة بينهم.

رحبوا بي وقالوا: لا تقلقي يا خالتي، لا شك بأنهم سيخرجونك قريباً.

طمأنتهم بأنني لست خائفة. وقلت: أنا بين أبنائي وإخواني، وهؤلاء الحمقى لا ذمة لهم ولا ضمير.

 

تتابع أم محمد قصتها “بدأت رحلتي مع هؤلاء السجناء واستمرت مدة ثلاثة أشهر. قضيتها في سجن المركز الثقافي في معرة النعمان. كنت أنام على الأرض دون فراش، كثيراً ما كنت أقدم أغطيتي لأسرى قدموا حديثا وتعرضوا للتعذيب. كنت أشعر بهؤلاء الأسرى وكأنهم أبنائي فعلاً. لم استطع تقديم مساعدة مادية لهم، ولكني كنت أساعدهم معنويا، برفع هممهم ونسيان معاناتهم وطمأنتهم إلى أن الحرية باتت قريبة.

وفعلا بدأ الثوار بمهاجمة معاقل الجيش في المعرة. تساقطت الحواجز العسكرية بأيدي الثوار الواحد تلو الآخر. عندما شعر الأنذال بقرب نهايتهم، أطلقوا النار بشكل عشوائي على السجناء، قبل أن يلوذوا بالفرار. مات من مات داخل السجن، وجُرح من جُرح ونجا من نجا. كنت أنا من الناجين بعون الله. أولئك الأبطال الذين أحاطوا بي وكأنهم يدافعون عن أرواحهم. نعم لقد استشهد عدد كبير منهم.

تجهش أم محمد بالبكاء: نعم عرفت أنهم سيخرجون بعز وكرامة، وما أعز من الشهيد عند ربه. كان ذلك في ٢٥ آب/أغسطس ٢٠١٣.

 

محمد (٣٨عاماً) الإبن الأكبر لأم محمد يقول “لطالما كنت فخورا بأمي فهي إمرأة قوية تعرف الحق وتقف معه”.

جارة أم محمد وتدعى أم عمار(٥٧ عاماً) تقول “بارك الله فيها، فهي نعم الجارة والاخت والصديقة”.

 

تقول مديرة مركز مزايا غالية الرحال (40 عاماً) “سمعنا عن أم محمد ونشاطاتها، استدلينا عليها وقمنا بتكريمها في المركز مع  كثير من الناشطات في يوم المرأة العالمي في ٨ آذار/مارس 2015. لأنها بمسيرتها النضالية فعلا تستحق التكريم”.

 

“لم ولن أفكر بالتراجع يوماً، سأبقى مع الثوار والثورة قلباً وقالباً إلى أن يتم النصر أو أهلك دونه” بهذه الكلمات أنهت أم محمد حديثها.