كانت في السنة الأخيرة من دراستها الجامعية، وأرادت إنهاءها بسلام. قبل أن تبدأ رحلتها في مساعدة المرضى داخل المشافي. ولكنها لم تكن تعلم ما يخبئه لها القدر على يد الطغاة والظالمين من عناصر النظام وشبيحته.

إنها عبير، وهي ابنة معرة النعمان، التي ستحكي قصة عذابها في المعتقل. وتبدأ الحكاية بكان يا ما كان: “انشق والدي عن الجيش عام 2013 ، بعد ما رأى من وحشية النظام وقسوته في معاملة شعبه ما رأى. انتسب للقتال في صفوف الجيش الحر. لم أكن أعلم أن خطوته هذه ستكون ذريعة وسبباً لاعتقالي على أحد الحواجز. كان ذلك أثناء سفري إلى حلب لتقديم امتحان السنة الأخيرة في كلية التمريض. تم نقلي بعدها إلى أحد السجون في حلب. وهناك كانت أصوات التعذيب تملأ المكان وتصل عنان السماء. كان السجانون يحرقون أجساد الفتيات بأسياخ حديدية، أما ضرب الفتيات وتعليقهن من أيديهن فقد كان أمراً اعتيادياً”.

تقول عبير أنهم حققوا معها مرات عدّة. وطلبوا منها معلومات عن والدها وعن فصائل الثوار وأسمائهم وأماكن تواجدهم. وبسبب نكرانها وعدم البوح بما يريدون تعرضت للتعذيب. كانوا يصبّون الماء البارد عليها، وتعرضت للضرب إضافة إلى الإهانات النفسية، ولكن الأمر الذي كان كارثيا وجعلها تتمنى الموت هو قيام أحد السجانين باغتصابها. أصيبت بعدها بانهيار عصبي، حيث نقلت إلى المشفى بعد أن أغمي عليها.

وتتابع عبير راوية قصتها: “وضعوني بعد خروجي من المشفى في زنزانة منفردة وضيقة، الهواء فيها يكتم الأنفاس. بقيت فيها لعدة أيام وأنا أبكي لما حل بي. وأدعو الله أن يمنّ عليّ بفرجه”.

بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال تم إطلاق سراح عبير بعفو عام. لم تستطع العودة إلى مدينتها، فقصدت بيت عمتها التي تقيم مع زوجها في ريف حلب. تقول أم وائل عمة عبير: “عندما خرجت عبير من السجن كانت منهارة تماماً. حاولت عبثاً أن أواسيها وأخفف عنها، لكنها كانت تتوسل إليّ ألا أخبر أهلها بأنها على قيد الحياة، وأن أوهمهم بأنها فارقت الحياة تحت التعذيب. فهي لا تستطيع رؤيتهم بعد ما حصل لها. حاولت أن أقنعها بأنها ضحية ولا ذنب لها بما حدث، وبأن أهلها سيفرحون كثيراً لرؤيتها”.

ولكن عبير كانت تتوسل لعمتها ألّا تفعل. وتقول عبير عن هذا الأمر: “لا أريد لوالدي الذي عاش طوال حياته مرفوع الرأس أن يذل ويهان بسببي. ولا أريد أن أشاهد دموع الحزن والأسى في عيني أمي المريضة. ليتني أموت فلقد أصبح الموت راحة لي من هذه الحياة الخانقة”.

العمة أم وائل لم تستطع إخفاء الأمر عن عائلة عبير. كانت تعرف مدى الحزن الذي يعيشونه، لأنهم لا يعرفون عنها شيئاً بعد محاولاتهم الكثيرة للسؤال دون فائدة. جاءت والدة عبير لأخذها. كان اللقاء الذي ضم شمل العائلة مليئاً بالدموع. بكت عبير على صدر أمها كثيراً. فهمت الأسرة ما حل بابنتهم قبل أن تتكلم. فهو مصير معظم الفتيات اللواتي يتعرضن للاعتقال.

تقول والدة عبير: “خرجت ابنتي من وراء قضبان سجنها، لتسجن نفسها بين جدران غرفتها. وتصطدم بحاجز العادات والتقاليد. فنحن نعيش في مجتمع محافظ، والفتاة عندما تتعرض لما يشوب سمعتها لن تجد لنفسها مكاناً كريماً”.

ولكن والدها كان متعاطفاً معها كثيراً، وأقنعها بضرورة الخروج لتعيش حياتها مثل بقية الفتيات. وأن تمارس عملها في التمريض في إحدى المشافي الميدانية دون أن تنظر إلى الماضي. كما وعدها أن يثأر لها: “سأقاتل مع رفاقي ما بقيت في بنادقنا رصاصة، وحتى آخر قطرة من دمائنا لنثأر لدماء الأبرياء ونستعيد شرفنا وكرامتنا”.

عبير خرجت إلى الحياة من جديد، بعد أن أقسمت أن تدعم كل تحرك ثوري من شأنه أن يخلص السوريين من هذا النظام المجرم. بدأت عملها في النقاط الطبية والمشافي الميدانية لإسعاف المصابين من ثوار ومدنيين، كما ساهمت في العمل الإغاثي وانتسبت إلى الجمعيات النسائية لتدريب النساء على مهنة التمريض.

تختم عبير قصتها بالقول: “على كل إنسان شريف في هذا العالم أن يسعى مع السوريين للتخلص من هذا النظام. إنه نظام ينتهك الأعراض ويقتل الأبرياء دون شفقة أو رحمة، ثم يمشي بخيلاء فوق جثث القتلى. نطالب العالم أن يقف إلى جانبنا للتخلص من الظلم الذي يجثم فوق صدورنا”.

سونيا العلي (33 عاماً)، من معرّة النعمان، متزوجة أم لأربعة أبناء، تحمل إجازة جامعية في مادة الأدب العربي تعمل كمدرّسة.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي