النفايات… مهنة للفقراء

غلة النهار من النفايات القابلة للتدوير تصوير ماهر العمر

غلة النهار من النفايات القابلة للتدوير تصوير ماهر العمر

عامر (12 عاماً) بملابسه المغبّرة وشعره الأشعث، يجوب شوارع المدينة كلَّ يوم… باحثاً عمّا يمكن أن يجدهُ في النفايات، من معادنٍ وأدواتٍ بلاستيكية مهترئة، وعلب فارغة. يجمعها عامر داخل كيسه المتَّسخ، ليبيعها ويستفيد من ثمنها في شراء بعض الحاجيات له ولأُخوته.

عامر لم يعد طفلاً، هو يزاول مهنة انتشرت في ريف إدلب مؤخراً. إنها مهنة تجميع النفايات وبيعها… يذهب بعضها إلى معاملٍ مُختصّة، والبعض الآخر يُباع إن كان في حالة جيدة. هذه المهنة، أصبحت مهنة عدد كبير من الفقراء والأطفال، في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة التي تعيشها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الحاكم في دمشق.

يقول عامر: “والدي معتقَل منذُ أكثر من ثلاثة أعوام… أعيش مع أمي وإخوتي. تركتُ الدراسة بعد القصف الذي تعرّضت لهُ قريتي معصران، ونزحنا إلى كفرنبّل. حاولتُ البحث عن عمل أستطيع من خلاله جني بعض المال لإعالتنا، لكن دون جدوى”.

يعمل عامر في جمع النفايات، لأنها مهنة متاحة للجميع، لا تحتاج لخبرة أو رأس مال، وليس بالضرورة أن تكون يافعاً. يمتهنها الأطفال قبل الكبار. وبذلك صارَ عامر يجمع يومياً ثمناً لكيسين من الخبز، لهُ ولعائلته.

باتَ مشهد السيارات التي تجوب الشوارع، بحثاً عن الخرداوات والمعادن أمراً اعتيادياً في مختلف المناطق. وما إن تحضُر هذه السيارات المزوَّدة بمكبّرات الصوت، حتى يهرعُ إليها الأطفال لإيقافها، فيبيعون ما قاموا بجمعهِ خلال اليوم.

“عبوات آلمنيوم، بقايا أبواب، بقايا نوافذ محطّمة، بطاريات تالفة، أدوات بلاستيكية، نحاس، خبز يابس”، هذه الأشياء التي يشتريها حمود حصرم (35 عاماً) ممن يجمعونها كما يوضح لموق حكايات سوريا.

ويقول حصرم: “أشتري كيلو البلاستيك بـ 125 ليرة سورية، الحديد بـ 50 ليرة والنحاس بـ 3500 ليرة سورية، والخبز اليابس بـِ 100 ليرة… وبعد ذلك أذهب إلى مصانع صهر المعادن لبيعها، أمّا الخبز اليابس، أبيعه لمحلات الأعلاف”.

ويلفت حصرم إلى أنّ مهنة جمع النفايات وبيعها وتدويرها، كانت في السنوات الماضية أكثر ربحاً، لأنّ الناس كانوا يستغنون عن الكثير من الأشياء… أمّا اليوم فهم يستهلكون المواد حتى آخر نفس، نتيجة الحرب والغلاء.

زميلهُ في المهنة أبو عمر، يتحدث لموقعنا عن قيام الأطفال بالذهاب إلى المنازل المهدّمة، فيجمعون ما تحويه من خردوات لبيعها والإستفادة من ثمنها. فالمنازل المهدمة يمكن أن تكون مصدراً للكثير من المواد القابلة لإعادة التدوير.

وفي هذا المجال طوَّرَ بعض الحرفيين في معرّة النعمان، عملية إعادة تدوير قضبان الحديد المستخرجة من ركام المنازل المدمّرة، لاستخدامها مرة أخرى.

سلوم قيطاز (41 عاماً) يعبّر عن سروره، بشراء الحديد المُعاد تدويرِهِ واستخدامه في بناء منزله. فقد كان سيدفع مبلغاً مُضاعفاً إذا ما اشترى حديداً جديداً، مع العلم أنّ جودة الحديد الخاضع لإعادة تدوير، لا تختلف كثيراَ عن ذاكَ الجديد.

أبو فراس (41 عاماً) يمتلك معملاً لصهر المعادن، يقول: “صار في ريف إدلب العديد من معامل صهر المعادن وإعادة تدويرها. حيثُ نقوم بشراء كافة الأدوات المنزلية المستعملة والتالفة، بالإضافة لأي أدوات معدنية، عن طريق وسطاء، يشترونها من خلال تجوالهم على القرى والبلدات من الأشخاص الذين يجمعونها”.

وعن آلية العمل يضيف أبو فراس: “بدايةً نقوم بفصل البلاستيك عن المعدن، ومن ثمَّ نصهر كل منها على حدة، على شكل سبائك. ثمَّ نقوم ببيعها للمعامل والمصانع المحلية، وأحياناً يتم تصديرها إلى تركيا، وخاصة بعد توقف بعض المصانع عن عملها نتيجة الهجمة الشرسة للنظام وأعوانه”.

مصنع أبو فراس أمَّنَ فرصَ عملٍ لعددٍ كبيرٍ من الشبّان الذين وجدوا فيه ضالتهم، بعدما فقد معظمهم وظائفهم الحكومية، وأصبحوا عُرضة للبطالة.

وائل شاهين (28 عاماً) وهو أحد العاملين في المصنع، يقول: “أتقاضى أُجرتي أسبوعياً، بمعدل 1800 ليرة سورية في اليوم. وأعمل ست ساعات يومياً، وهناك أكثر من أربعين عاملاً غيري في المصنع”.

بابتسامة يُحيطها القناعة والرضا، يتابع وائل قائلاً: “أحمدُ الله أننا نعمل، فهناك أشخاص يحلمون بعملٍ لا يضطرهم للهجرة بحثاً عن رزقهم في تركيا ولبنان”.

مصانع تدوير النفايات، ساهمَ ظهورها في كسر أسعار البضائع المعدنية والبلاستيكية، لا سيّما أنّ التجّار كانوا يلجأون لاستيراد المواد الخام من خارج سوريا لتأمينها لأصحاب المصانع… أمّا الآن عادَ تأمينها من خلال مصانع محلية وبأسعار مقبولة. ما انعكسَ على المواطن الذي رأى فارقاً واضحاً بين أسعار ما تنتجه هذه المصانع وما يشترونه من المواد المستوردة.

أم حسن (54 عاماً)، اشترت عدداً من الكراسي البلاستيكية لاستخدامها في منزلها، تقول: “لأول مرة منذ بداية الثورة أجد بائعاً يخبرني أنهُ لم يشترِ بضائعه بالدولار، وبالتالي لا يرفع السعر… وعندما سألتهُ عن الأمر، أخبرني أنّ هذه الكراسي محلية الصنع”.

تتوق أم حسن لعودة الصناعة المحلية كما كانت في السابق، فهي صناعة ذات جودةٍ عالية، وبسعر مناسب، على حدِّ وصفها.

لصناعة تدوير النفايات، فوائد كثيرة. لاقت هذه الصناعة تأييد المجالس المحلية في ريف إدلب، فهم وجدوا فيها مهنةً للفقراء، تُغنيهم عن التسوُّل. كما أنها تُساهم بالإستفادة من النفايات بإعادة تدويرها. وكذلك تُخفِّف من كميات القمامة المتراكمة في الشوارع… وتتيح للأهالي الإستفادة مما يمكن الاستغناء عنهُ، فيبيعونه بدلاً من رميه.

لكن من جهةٍ أخرى، ينبّه غسان الشوّاف (32 عاماً) وهو خبير بيئي إلى أضرار تدوير النفايات، فيقول “إنَّ تلكَ الصناعة لا تخلو من بعض الأضرار الناجمة عن حرق المواد لصهرها، ما يلوّث الهواء… خاصة أنهُ يتم استعمال مادة المازوت، التي تحتوي على نسبة عالية من الإشعاعات المُسبِّبة للسرطان، وكذلك زيادة غاز ثاني أوكسيد الكربون ونقص الأوكسجين”.

فيما يستبعد أبو محمد، وهو أحد أعضاء المجلس المحلي في كفرنبل أن يكون هناك من أخطار لصناعة تدوير النفايات، بالقول: “إنَّ المصانع موجودة في أماكن متطرّفة بعيدة عن التجمعات السكنية. وأنا أرى العكس تماماً، إذ إنَّ صناعة تدوير النفايات لها دورها الإيجابي في تنظيف البيئة من النفايات ومخلّفات الحرب… وضرر هذه النفايات سيكون أكبر بكثير، إذا ما تُركت منتشرة في كل مكان”.

 

وبذلك تتحوَّل مهنة جمع النفايات وفرزها وتدويرها… إلى مهنة للفقراء، بدءاً من الأطفال الذين يجمعونها، إلى الوسطاء، فالمعامل التي تُشغّل اليد العاملة… مهنة تعتمد على النفايات، في مناطق، يُحاصرها النظام، فتصنع من نفاياتها حياةً جديدة.