قصتي والكرسي المتحرِّك

An elderly woman is examined in the internal medicine clinic at the Hospital of Jerusalem in Aleppo. Photo: Abu Mujahid Abu al-Jud

An elderly woman is examined in the internal medicine clinic at the Hospital of Jerusalem in Aleppo. Photo: Abu Mujahid Abu al-Jud

مع غروب شمس نهار 29 أيار/مايو 2012. حملتُ طفلتي وكان عمرها أربعة أشهر. أمّا أنا فقد كان عمري 28 عاماً… رحتُ لزيارة أهلي في ذلك اليوم، كما جرت العادة.

كنتُ أُساعد أمي في أعمال المنزل… لكنَّ مساء ذلك اليوم كان مختلفاً… اشتباكات تحصل بين قوات النظام والثوّار في القرية المجاورة… نزحَ من القرية المجاورة عددٌ كبير من الأهالي، ومكثوا في منزل أهلي، بسبب الإشتباكات في قريتهم…

لم نكن قد اعتدنا بعد على وجود الطائرات الحربية أو المروحية في سماء قريتنا… ولم نكن بالأصل نخاف منها. فجأة، سمعنا صوتاً، نسمعهُ لأول مرة! إنها الهيلكوبتر تحوم فوق قرييتنا، لأمرٍ ما… ما هو؟

وفي خضَم النقاشات السياسية بيني وبين النازحين، جاء صوتٌ مرعب… كانت الهيلكوبتر قد رمت أول رماية رشّاش بدا وكأنها تستدف بيت أهلي! هل اعتبروا الأهالي النازحين مسلحين؟! نجا المنزل ومن فيه من الإصابة…

دبَّ الذعر في قلوب الجميع، فركضنا جميعاً من باحة المنزل إلى الداخل… ولكنني لم أوفَّق لم أكن سريعة كفاية بالهرب، فاصطادتني طلقة رشَّاش… وقعتُ على الأرض… أحسستُ أنَّ نار جهنم قد اشتعلت بداخلي. وأحسست كأنَّ أوصالي قد تقطّعت وكأنَّ أحدهُم يُمزقني!

الدمُ يجري من حولي، لكنّي لا أستطيع التحرُّك! كلهم من حولي أخي وأمي… يفصل بيننا مترٌ واحد أو أقل… لكني لا أقوى على التحرُّك! صارَ أخي يسحبُني بصعوبة باتجاه الداخل… فالهيلكوبتر ما تزال فوقنا تطلق النار بالرشاش.

كنت أسمعُ كلَّ شيء، وأعي ما يحصل… سمعتُ وصول سيارة الإسعاف، وشابٌ يقول بلكنة أهل حمص المُحبَّبة: “سلامتك يا أُختي”… كان المسعف… وضعوني في سيارة الإسعاف، وأسرعوا بي إلى مستشفى قريب.

رأيتُ وجهَي الطبيبة والممرض… كان بادياً عليهما القلق…. سمعتهما يقولان لأبي الذي كان يبكي ويصرخ حزناً: “الأفضل أن تأخذوها فوراً إلى تركيا… يبدو أنّ حالتها صعبة”.

ومرة أخرى، نقلتني سيارة الإسعاف، لكن هذه المرة لتسلّمني إلى سيارة إسعاف تركية، بالقرب من قرية حدودية. زوجي كان بجانبي حزيناً… ابنتي بقيت في سوريا… كنتُ أُفكّر بها… حان موعد إرضاعها ونومها…

وصلتُ إلى المستشفى في مدينة الريحانية التركية. نمتُ هناك ليلة واحدة… كانت قد بدأت العناية الطبية بي… في صباح اليوم التالي نقلوني إلى مستشفى أنطاكيا لسوء حالتي.

الجميع في المستشفى يتكلمون اللغة التركية التي لا أفهمها… لكن كنتُ أعي من وجوههم أنّ حالتي سيئة… كل هذه التفاصيل لا تغيب عن بالي…

دخلتُ إلى غرفة بيضاء، كانت غرفة العمليات… لم أستطع أن أرى إلا السقف من فوقي… فأنا لا أقوى على الحركة… صرتُ أرى وجوه الطبيب والممرضات، يقفون حولي… خلعوا الحلي والذهب الذي كنت أضعهُ… يد الممرضة باردة وهي تخلع القرط من أُذني…

وغفوت في غرفة العمليات… بعدها استيقظت وكأنَّ لا جسد لي ولا وزن… ألقى عليَّ الدكتور التحية باللغة التركية. ابتسمتُ وحاولت النهوض تقديراً لهُ. لكن لم أستطع…

جاءَ رجل ليتولّى الترجمة…

سألوني: “هل أنتِ جائعة؟”

قلتُ: “نعم أنا جائعة”

وكأنَّي لم آكل منذُ سنين…

تناولنا الطعام أنا والطبيب والمترجم…

راح الطبيب يخوض في الحديث. والمترجم يتولى عملية تسهيل التواصل بيننا. دعاني إلى أن أكون صابرة… ثمَّ أخبرني أني أُصبتُ بشللٍ نصفي…

نعم لقد بدأت معاناتي. دوامة كبيرة… ضخمة… بعدها استقريتُ مع عائلتي وعمتي في مدينة الريحانية التركية. وبدأت رحلة علاجي وأنا في المنزل على السرير… كانت عائلتي بجانبي، وبشكل خاص عمتي…

بعد ثمانيةٍ أشهر التقيتُ بابنتي، أتى بها زوجي من سوريا… لم يكن يستطيع المجيء بها وأنا في حالة يُرثى لها، كيف أُرضعها؟ ماذا أفعل لها؟ كيفَ أعتني بها؟

أصبحت إبنتي أكبر بثمانية أشهر… صارَ عمرها سنة وشهرين… كان اللقاء الأول معها هو الأصعب… كانت تلك اللحظة هي الأقسى… لم تتعرَّف إبنتي علي ولم تبدِ لي أي بادرة!

بعد سنة ونصف من العلاج استطعت أخيراً أن أجلس على الكرسي المتحرَّك. وكان أول لقاء لي بالعالم الخارجي… يا الله كم تغيّرت الدنيا، كنتُ أشعر بالتغريبة النفسية… أنظر للوجوه والأبنية، كأنني أرى هذه الأشياء لأول مرة!

هذا لم يثنِ من عزيمتي على استكمال رحلة العلاج، لأكون بجانب إبنتي. كان زوجي قد تخلّى عني وعنها.  طلقّني بعد فترة…

صارَ عندي التحدي أن أكسب ابنتي، وأجعلها تكبر على شعور الفخر بي وأن تتعوَّد علي بعدما انقطعتُ عنها لفترة…

في العام 2015، وقد مضى على إصابتي ثلاث سنوات، صرتُ أحسنَ حالاً، وزادَ اعتمادي على نفسي… عدنا إلى سوريا، التي لم تغب عن بالي لحظةً واحدة…

تغيَّرَ كلُّ شيء…كان لقائي بالناس في سوريا أصعب مما توقّعت، لأنهم يُبدون نوعاً من التعاطف الذي لا أرغب بهِ…  ومع ذلك كنتُ قوية بما يكفي لأن أتجاوز تلكَ المرحلة….

في سوريا، عملتُ على فتح مركز للعلاج الفيزيائي بمساعدة أصدقاء لي، مصابين مثلي… وها نحن اليوم نقوم بعملنا في المركز. ونحن فخورون جداً كوننا مصابين ونقدَّم جزءاً بسيطاً من المساعدة لغيرنا من المصابين…

الكرسي لم يغيّرني… الكرسي عرّى الكثير من الناس أمامي وجعلني أكثر قوة”. هذا ما قالته لي في ختام جلسة البوح هذه، قبل أن تذهب إلى عملها.

فاطمة بكور (23 عاماً) من ريف حلب الغربي تعمل مدربة مع مؤسسة بدائل.