خسرت أولادها الثلاثة وتخشى على البقية

إخراج امراة من تحت أنقاض منزلها بعد استهدافه بغارة من الطيران الحربي لنظام الأسد- - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

إخراج امراة من تحت أنقاض منزلها بعد استهدافه بغارة من الطيران الحربي لنظام الأسد- - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

"ومرَّ ذلك اليوم بغصّة وأنا أترقب أي خبر عن محمد، إلى أن أتى رفاقه يخبروننا أنَّ محمد قد استشهد..."

صفاء الفرحات

بدأت حياتنا تتغيّر منذ بداية الثورة، عندما كنا نخرج بالمظاهرات السلمية دفعةً واحدة بعد صلاة يوم الجمعة، حاملين اللافتات المنادية بالحرية.

وكان لدي ستة أبناء، كانوا من أوائل المشاركين في الحراك. وكل منهم، يعمل في مجال يفيد الثورة ويقدّم كل ما يستطيع لإنجاحها.

إبني الثاني محمد متزوج وأب لولدين. بنى منزلاً بجانب منزلي، كي لا يبتعد عني حتى بعد الزواج. وغالبا عندما كنت أخرج من منزلي، كنتُ أراهُ على شرفة منزله، يبتسم لي ويدعوني لشرب الشاي.

في العام 2013، وبعد عامين على الثورة، صار أبنائي يشاركون في العمل المسلح ضد النظام. وكانت مشاركة محمد كمختص في مجال الدبابات، فهو يمتلك خبرة بذلك من خلال خدمته الإلزامية مع النظام.

في يوم من الأيام كان محمد يقف على شرفته، لم ينادِني لشرب الشاي كما جرت العادة، بل طلبَ مني الدعاء لهُ بالنصر!

ذهبتُ فوراً إلى منزله، فأخبرني أنّه سيخرج للمشاركة في معركة كبيرة في بلدة كفرنبودة (ريف حماة). كانت البلدة تحت سيطرة النظام، ويسعى الثوّار لتحريرها.

نظرتُ إلى محمد نظرةً فيها تمعُّن، وكأنّ أحدهم يقول لي: “تمعّني فيه جيداً، لأنكِ لن تريه ثانيةً”.

ترك محمد المنزل وهو ينظر خلفه، يبتسم لي ولزوجته وأولاده. وقطعَ الطريق، حتى صارت ابتسامته غباشاً… ومضى ولم أعد أراهُ…

بعد ذهابه، أتى إبنهُ سامر يسألني: “هل سيعود أبي كما قالت لي أمي؟ أم سيستشهد كبعض رفاقه، كما سمعته في مرة يقول؟”

سكتُّ، ولم أعرف بماذا أُجيبُ حفيدي… ثمَّ قالَ لي: “أبي يُحب الجنّة”.

ومرَّ ذلك اليوم بغصّة وأنا أترقب أي خبر عن محمد، إلى أن أتى رفاقه يخبروننا أنَّ محمد قد استشهد…

نعم سمعتُ كلامهم، لكنّي لم أكن أُصدّق!

سألتهُم بصدمة: “أين هو؟!”

أكّدوا لي الخبر ثانية، وقالوا لي أنهم سيأتون بجثمانه بعد قليل، فقد كانَ بطلاً في المعركة.

وسط بكاء زوجته وأولاده… تقدّم إلي إبنهُ سامر، وقال: “ألم أقل لكِ يا جدتي أنّ أبي يحب الجنة؟”

هنا أجهشَ الجميع بالبكاء…

ثمَّ مضت الأيام ونار الفراق تُشعل جسدي. أخرجُ كلّ يومٍ وأنظر إلى شرفته: أين أنتَ يا محمد ولِمَ لا تدعوني لشرب الشاي ثانيةً؟!

بعد خمسة أشهر، وقفتُ أمامَ إبني الثاني حسين ذات الوقفة التي وقفتها أمام محمد…

كان سيخرج للمشاركة في معركة للثوّار في بلدة مورك (ريف حماة)… قال لي: “ما بك يا أمي، لِمَ تقفين هكذا؟!”

قلتُ له: “ستذهب ولن تعود”…

ابتسمَ لي، قائلاً: “نحنُ نقاتل قوات النظام إما لنحقق النصر أو لنستشهد في سبيل النصر”.

قلتُ له: “إن لم تعد أوصل سلامي لأخيك محمد”.

وبكيتُ بكاءً لم أبكه حتى في يوم رحيل محمد…

في اليوم الثاني أتى الناس يتحدثون بأنّ النظام حاصرَ الثوّار في مورك… نظرتُ إلى جارتي وقلت لها إنّ حسين في خطر… وجلسنا ندعو لهُ بالخير.

وأتى الليل، وسمعتُ أصواتاً خارج المنزل ينادون زوجي: “يا أبا محمود”.

راودَني الأمل، وتوقّعت وجود حسين بينهم.

خرجتُ مسرعةً، وإذ بهم يحملون حسين شهيداً… صرتُ أقبّل جسده، وأمسح على رأسه، ودموعي تقطُر فوقهُ… أمّا زوجته، فقد كانت منهارة تماماً، لم يمضِ على زواجهما الكثير، وليس لديهما أولاد.

هكذا كانت سنة 2013… عام الفراق. فقدتُ خلال خمسة أشهر إبنَي محمد وحسين.

نعم بعد ذلك، حاولتُ أن أحافظ على أولادي الأربعة المتبقين لي…. لكنّ انفعالهم كان كبيراً.

لم أعد أستطع السيطرة عليهم، لا بكلامي ولا بأي شيء أفعله، حتى لو بكيتُ كثيراً مانعةً إياهم الخروج للقتال…

كانوا يقولون لي، بأنّ صار لديهم ثأران، الأول من أجل الحرية، والثاني من أجل محمد وحسين.

عندما رأيتُ أولادي مندفعين بهذه الطريقة، فضّلت أن أدعو لهم بالسلامة، وإن قتلوا أن يتقبلهم الله شهداءً…

 

بقي أولادي يشاركون في القتال مع الثوّار لعامين ونصف.

وكانت صورة محمد وحسين لا تفارقني…

صغيري اسماعيل، الأعذب، بقي لي في البيت ضحكته ومصدر التفاؤل فيه… صوته كان يملأ المنزل… وكان يعمل في تجهيز القذائف للثوّار.

في يوم، جلس اسماعيل بقربي وقال لي: “لقد رأيت محمد وحسين في منامي، يجلسان بجانبي يضحكان ويمازحاني بالقول: لقد اشتقنا إليك يا أخي”.

بعدها سكتَ اسماعيل… ثمّ صار يضحك!

قلت له: “ما بك؟”

فرّدَ علي: “هل ستقولين لي كما قلتِ لمحمد وحسين، أني سأذهب ولن أعود؟”

ضحكَ ثانيةً، وقلبي صارَ يختنق…

في صباح اليوم الثاني، ذهب اسماعيل لعمله في تجهيز القذائف، ولم يأتِ في وقت العصر كما جرت العادة… ثمَّ جاء أصدقاؤه يخبرونني أنّ اسماعيل انفجرت به قذيفة واستشهد أثناء عمله.

بعدَ ذلك الحين، صار الناس في القرية، يطلقون علَي لقب الخنساء، وهي الشخصية التاريخية التي اشتهرت برثاء أبنائها الأربعة الذين ماتوا.

هل أفقدُ بقية أبنائي؟

استشهد محمد وحسين واسماعيل… أتمنى أن يتوقف بركان الدم، وأن يرحل بشار الأسد ونعيش بسلام وحرية.

تلكَ كانت قصة أم محمود، وهي اليوم تعيشُ على جمر ألا تسمع خبراً آخراً بفقدان أحد أبنائها الثلاثة المتبقين.

صفاء الفرحات، متزوجة وزوجها كان مدرّساً، لكنّ النظام فصله عن عمله منذُ بداية الحراك، ولديهما ثلاثة أولاد. يسكنون جميعاً  في غرفة واحدة، وتسعى صفاء للعمل من أجل تأمين مصروف العائلة ودفع علاج إبنها المريض.