أنا ردينة، تلك الفتاة الشامخة التي تركت هموم الحرب الظالمة آثارها العميقة على وجهي الطفولي الجميل، على الرغم من أنني في أواخر العشرينيات من خريف عمري.
لقد أجبرتني الأحداث الجائرة التي مرَت عليَ على التنقل في أرجاء “سوريتي” الغالية. تمكّنت خلال رحلة التنقّل من التعرّف على تفاصيل حياة الكثير من الأشخاص. تسكنني قصصهم وترافقني صورهم.
أعتدت على باقات الورود التي لطالما أسعدني بها حسن كلّما حضر دروسي. أجل إنه حسن ذاك الطالب المهذب الضحوك، عوّضه الله عن قصر قامته بسمو روحه وسعة أفقه. ليتني كنت أدري أن تلك الوردة البيضاء الخجلى في صباح السبت الحزين مع عبارات الصباح الشقية التي نثرثر بها دائما آخر ما سأستلمه منه. ليتني كنت أدري حينها، لربما كنت أسهبت بالحديث إليه مع رفاقه الذين ما برحوا يتحلقون حوله حبا، ليجود عليهم بألطف العبارات والمسميات المحببة إليهم. ولكن ليت ذلك اليوم التعيس ينمحي من سجلات ذاكرتي الصغيرة.
دخلت الصف مبتهجة منتظرة ما سيقدمه حسن لي، ولكن ارعبني مكانه الخاوي والصمت المخيف الذي خيم على المكان الفارغ رغم ازدحامه. سألت الطلاب بصوت يرتجف خوفاً: “ما بكم؟ أين حسن؟” فأجابتني الدموع قبل الكلمات. حينها أدركت أن صوت الطائرة البربرية الذي ايقظني باكراً على غير عادتي أخذ معه أحد أعزائي. بالله عليكم كيف تجرؤ طائرة عمياء مجنونة على تمزيق جسد مفعم بالحيوية والنقاء.

سيدة تجتاز الحواجز المتواجدة في المدينة للوصول لمنزلها المجاور لإحدى جبهات القتال في حي صلاح الدين في حلب. تصوير صلاح الأشقر

لم تعد قدماي تحملاني، سقطت مذعورة حزينة مفجوعة مكلومة بل أكثر من ذلك. حينها أختفى الكون من حولي للحظة. لكنها كانت كافية لأسترجع تلك المواقف الجميلة والحزينة مع حسن. في شريط كان يخنقني مع كل ذكرى تراودني. بعدها لملمت نفسي ووقفت متحدثة مع الطلاب بصوت تمزقه عبارات مسحتها من عيوني عبثا لتنزف من قلبي مجداً.
“أعزائي لقد سبقكم زميلكم حسن في نيل الشهادة، ولكن هذه المرة في الشهادة الأبدية عند رب البرية. الشهادة لأجل الحرية . لأجل عزة وطن نحيا له دوماً. إذا كنا حقا نحب حسن علينا أن نواصل دراستنا لننال الشهادة الإعدادية. فلنبدأ بدرس القواعد”. كنت قد أعطيت ذلك الدرس مراراً، ولكن حينها أدركت كم هو صعب. ولكأنني لم أحضَره من قبل ولم أجب عن أسألته مسبقا بل ولم تحفظه بطون الكتب يوماً، لربما فاجعة الفقد أسبغت على الدرس علامات استفهام غامضة، لم استطع بكل ما أوتيت من علم فك شيفرتها المبهمة. لقد كان درساً طويلاً جداً على الرغم من أن مدته لم تتغير، 45 دقيقة.
انتهى الدرس على صوت بكاء أحد أصدقاء حسن ممن غلبته دموعه لتعبر عن حرقة قلبه الصغير. فاجأنا قول أحد الطلاب لزميله الباكي مخفّفاً عنه ومواسياً، له مرة ولنا مرارا: “لا تبكي على حسن بل افرح له، فقد اختاره الله ليكون بجواره هانئاً منعماً خالداً في حنانه”. جاء صوته مدوياً في قلوبنا وأرواحنا قبل آذاننا.
كم شعرت أن الكون ضيق على الرغم من رحابته على تلك الثكلى عندما استقبلتني في بيتها الدافئ، باسمة رغم دموعها المؤمنة الصابرة، بقامتها الجبارة. تبعثرت كل كلماتي مع خاطري المكسور. هيبة حضرتها، وحدها تلك القبلة المرتجفة التي رسمتها على جبينها العالي أوصلت كل مشاعري التائهة المزدحمة بين الإيمان والخشوع والرهبة والدموع.
الحمدلله، الحمدلله، لا إله إلا الله، الله أكبر. كلمات أنارت المكان وأنعشت نفوسنا الظامئة إذا ما نطقت بها تلك الام العظيمة. وددت حينها أن أصل إلى فؤادها المكلوم وأحظى بشيء من سكون ويقين اختصرت بهما قضيتنا أجمعين. في حرم هذا الموقف الجليل تجاوزتني جملة لم أخطط لها مسبقاً: “هنيئا لكم بشهادة حسن يا أمي العظيمة”. فأجابتني تلك العيون التي تغسلها دموع الفقد والخلود: “الحمدلله الحمدلله قدرالله وما شاء فعل”.
لقد كانت تلك الدقائق القلائل التي تباركت فيها بقرب تلك السامية كافية لأتلقن درسا طويلاً يعج بالتفاصيل الدقيقة، يسطر فيه بطولات الامهات قبل شهادات الابناء. وقتها كدت لا أبلغ بيتي بسلام لولا توقف السائق عند مروري الخاطئ وسط الشارع. وكيف ولا وقد تركت كل تفكيري وعقلي على عتبات بيت تلك البطلة. سبحان الله من أين لها كل ذلك الصبر وكيف لقلبها الباكي أن يتسع لكل ذلك الايمان. ليلتها فقط استسلمت جفوني الباكية للنوم بهدوء وسلام ناثرة الطمانينة نسماتها في خردة روحي الممزقة، في وطن كل ما فيه أصبح ممزقاً. راودتني تخمة من اليقين على غير عادة لم أصادفها منذ خمس عجاف. اليوم فقط اطمأننت على مستقبل سوريا،ة وأنها أمانة في رحم لا يعرف العقر يوماً. رحم ينجب الشجعان أكثر مما تلد عريشة بيتي المهدوم ياسمينا. فطوبى لوطن ما فتئت نساؤه تلد الأبطال ولا زالت فتياته أخوات رجال.
ردينة عبد الكريم (29 عاماً) تحمل إجازة في الدراسات العليا للتأهيل. نازحة تعمل مؤهلة اجتماعية في ريف إدلب.