كفرنبل لم تتحرر من الظلام والاستبداد

في شهر آذار/مارس عام 2011، بدأت مدينتي تشهد المظاهرات المنادية بالحرية والكرامة، وذلك بعد أيام قليلة من انطلاق المظاهرات في محافظة درعا. بعد أسبوعين أو أكثر بقليل، بدأ المتظاهرون يطالبون بإسقاط النظام، وفي صباح 4 تموز/ يوليو 2011، اقتحم الجيش النظامي التابع لسلطة بشار الأسد مدينتي كفرنبل، في محاولة منه للقضاء على الثورة في هذه المدينة.
رجال كفرنبل ونساؤها وأطفالها عاينوا في ذلك اليوم وحشية قوات بشار الأسد بمواجهة المدنيين، حيث بدأ الاقتحام من محاور ثلاثة، وبإطلاق نار كثيف من البنادق والرشاشات، باتجاه منازل المدنيين.
أنا وإخوتي الصغار كنا مذعورين مرتبكين، لا نعرف ماذا يحدث، ولا نعرف ماذا يجب علينا أن نفعل. حتى أبي وأمي كانا خائفين حائرين، خاصة بعد تناقل الناس لخبر أو إشاعة، مفادها أن عناصر جيش بشار الأسد يغتصبون الصبايا المؤيدات للثورة. اتفق أبي وأمي على النزوح من المدينة إلى إحدى القرى المجاورة. ولكن الوقت تأخر، لا أحد بإمكانه الخروج من منزله. هكذا أراد جنود الأسد.
أسر كثيرة كانت قد نزحت قبل يوم أو أيام. فضولي الشديد دفعني في تلك الساعة للصعود إلى سطح منزلنا ومشاهدة ما يجري حولنا. ركضت مسرعة إلى السطح. الدبابات والمدرعات كانت قد ملأت طرقات المدينة. صرخ بوجهي أحد الجنود قائلاً: “انزلي لتحت.. لتحت بسرعة”، فنزلت مسرعة خائفة.

تستمر الحياة مع هذه العائلة الصامدة رغم القصف المستمر على حي المعادي في حلب. تصوير صلاح الأشقر

تمركز عناصر الجيش في أعلى أبنية المدينة. استولوا على المباني الحكومية، كالبريد والبلدية وفرقة حزب البعث ومعمل السجاد، كذلك استولوا على مشافي المدينة. معظم الثوار في تلك الأيام لم يكونوا مسحلين، وإنما كانوا ينادون بالسلمية، ولذلك هربوا أو انسحبوا إلى البساتين والقرى المجاورة.
بعد ساعة أو ساعتين من الاقتحام هدأت أصوات الرصاص. وبدأ الجنود بتفتيش المنازل. دخلوا إلى منزلنا، لم يقتربوا من أحد، فقط قاموا بعملية تفتيش عشوائية سريعة لغرف المنزل وأثاثه وانصرفوا. كانوا يأخذون من المنازل التي نزح منها أهلها كل ما يحلو لهم، زاعمين أنها منازل لإرهابيين، أو لعملاء أمريكا وقطر والسعودية. اعتقلوا بعض الشباب وحرقوا بعض الدراجات النارية. معظم المعتقلين أطلق سراحهم بعد أيام، بعد أن تبين لسلطات النظام أنهم ليسوا من الثوار ولا من المتضامنين مع الثورة، ولكن لم يحل ذلك دون التفنن في تعذيبهم من قبل هذه السلطات أثناء التحقيق.
بعد شهرين من دخول الجيش فتحت المدارس أبوابها. عادت أسرتي إلى ريف دمشق، بحكم عمل والدي، أما أنا فبقيت في كفرنبل لأكمل دراستي في الصف التاسع. تزامن ذلك مع بدء ثوار المدينة بالمقاومة المسلحة، حيث بدؤوا يشتبكون مع الجيش من حين لآخر. كان الثوار ينسحبون بعد كل اشتباك، سامحين لعناصر الجيش بصب غضبهم على المدنيين العزل، حيث كانوا ينتقمون من هؤلاء بالاعتقال أو التعذيب أو حرق الممتلكات كالسيارات، مالحلات التجارية.
ذات يوم، وبينما كنت ذاهبة إلى المدرسة على إثر اشتباك بين الطرفين لم أكن أعلم به. صوّب أحد عناصر الجيش سلاحه نحوي، وأطلق رصاصاته الغادرة، تلك التي تحمل معها الموت والألم، كانت كافية لتحويلي إلى جثة هامدة في لحظات، لكنني نجوت بأعجوبة وثقبت الرصاصات حائط منزل قريب مني، عندها التجأت مسرعة إلى أحد المنازل المجاورة، وبعد أن هدأ الوضع عدت إلى منزلي، لم أخبر أحداً من أقربائي بذلك، كي لا يحرمونني من الذهاب إلى المدرسة.
في 10 آب/ أغسطس 2012، حرر الثوار مدينتي من الجيش الأسدي، بعد معركة دامية استمرت خمسة أيام. ذلك اليوم كان من أسعد أيام حياتي. ظننت أننا تحررنا للأبد، وأننا سنعيش في الدولة التي نريد. ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، كفرنبل الآن تتنازعها المجموعات المسلحة، بعضها محسوب على الثورة وبعضها لا يعترف بالثورة، وإنما يعتنق فكراً متطرفاً يعادي الحرية والمدنية والديموقراطية.
كفرنبل … مدينتي … لم تتحرر حتى الآن من الظلام والاستبداد …
بسمة الحسن (18 عاماً) طالبة في المرحلة الثانوية، مع بداية الثورة، انتقلت مع عائلتها من ريف دمشق إلى كفرنبل حيث تقيم حالياً.