خوف وفوضى وإصرار على الحياة في إدلب وريفها

(إدلب-سوريا) تخلو شوارع كفرنبل صباح يوم من الناس تقريباً. وحدها القطط تتنقل بين حاويات القمامة… المتاجر مقفلة، لا أصوات هنا سوى لبعض من مروا على دراجاتهم وفي سياراتهم مسرعين. بائع اللبن يغامر بفتح دكانه، تتجه عيناه إلى السماء لمراقبة حركة الطيران. في الجانب الآخر من الشارع صف من المحلات المقفلة والأبنية المهدمة…
ركود مخيف وشبه كلي يجتاح منطقة إدلب وريفها منذ بداية العام 2018. هذا الركود يشمل الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية والاجتماعية وغيرها. كل هذا بسبب تصاعد حدة الغارات التي تستهدف المنطقة.
خالد يعود للمرة الخامسة إلى البيت، دون أن يفتح دكانه الكائن في وسط السوق لبيع الأحذية. ويقول خالد: “لقد توقف مصدر رزقي حالياً، فحتى لو فتحت متجري فلا يوجد زبائن أصلاً. الناس باتت تخاف المجيء إلى السوق بسبب القصف الذي بات يتركز عليه”.
يخشى خالد أن تستمر هذه الحال لفترة طويلة… مؤكداً أنها ستؤثر سلباً على معيشته وحالته المادية الفقيرة أصلاً …
في السوق نفسه يعاني محمود النازح من حماه، من تعطل سفريات نقل الخضار والفواكه لمتجره من مدينة معرة النعمان. ويلفت محمود إلى أن سوق الخضار في المعرة تم استهدافه مرات عديدة بغارات جوية. ويقول وبأنه شاهد بأم عينه أشلاء القتلى ذات مرة في السوق عند استهدافه وقد نجا من الموت بأعجوبة …
يقول محمود: “أصبحت أخاف من الذهاب إلى هناك … وأحيانا أخرى أغامر بالذهاب بسبب الحاح الناس وفقدان الخضار من السوق”.
تضاربت الآراء حول أسباب زيادة حدة الغارات التي تستهدف وسط المدن والأسواق منذ بداية العام 2018.
وليد (50 عاماً) من معرة النعمان يرى بأن الضربات الجويه اشتدت بسبب اشتعال المعارك بين قوات النظام والمعارضة شرق الريف الإدلبي واسقاط طائرة روسية… ويتحدث وليد عن خوف السكان بشكل عام جراء تقدم قوات النظام شرق مدينة معرة النعمان باتجاه مدينة سراقب.
يعتقد ماهر( 60 عاما) ابن قرية البارة شمال مدينة كفرنبل أن أبناء المنطقة يتعرضون لهذه الهجمات منذ تحرير إدلب من قوات النظام في العام 2012 … وهذه الغارات لا تميز بين مواقع مدنية وعسكرية. وبحسب ماهر فقد زاد الفقر بين الناس، وغلاء الاسعار.
ويشير ماهر إلى خطورة استهداف المشافي المجانية في المنطقة بشكل مكثف وممنهج، كمشفى شام في قرية حاس والمشفى الوطني في المعره ومشفى اورينت في كفرنبل عدة مرات. وجميعها مشافي تعمل مجانا في منطقة ريف ادلب الجنوبي. وهو ما إدى إلى اغلاق جميع المشافي في محافظة ادلب لفترة غير محددة.
الطفل عبدالرحمن (10 أعوام) ابن مدينة كفرنبل لم يصب بأذى جراء الصاروخ الذي سقط في وسط ملعب مدرسته الإبتدائية ولكنه أصيب بالذعر. والد عبد الرحمن لم يعد يسمح لأولاده بالذهاب إلى المدرسة منذ ذلك اليوم.
مديرية التربية والتعليم الحرة في محافظة إدلب كانت قد أعلنت عن إيقاف العملية التعليمة في المدارس والمديريات التابعة لها، بسبب القصف. وشمل الإقفال نحو 1300 مدرسة.
المعلم رافع (35 عاماً) يقول: “لحسن الحظ كنا مع التلاميذ داخل الصفوف أثناء سقوط الصاروخ … كان الصوت مرعباً واقتصرت الأضرار على الماديات حيث تكسر زجاج النوافذ وخلعت الابواب. ولكن الأطفال أصيبوا بالذعر الشديد”.
رافع أكد أن أغلب المدارس أغلبها في كفرنبل تعرضت للقصف… لذلك فهي خالية هذه الفترة من الطلاب وأغلبها مغلقة بأمر من مدير المدرسة حرصاً على سلامة الطلاب وأحيانا أخرى يستأنف الدوام بحسب اشتداد وتيرة القصف والأوضاع.
واقع الحال هذا ينسحب على أغلب المدارس في القرى المحيطة بمدينة معرة النعمان مثل حاس وكفروما وجرجناز وسراقب وحيش. يأسف رافع لحالة المدارس هذه ويلفت الى أن خطورة الوضع تسببت باستقالة الكثير من المدرسين. وهذا برأيه سيؤثر على العملية التعليمية بكافة مراحلها بشكل عام وانتشار الأمية…
الطالب مائن يخاف من الذهاب إلى جامعة ايبلا بعد استهدافها ليلاً. خوفاً من تكرار القصف أثناء الدوام .
بعض المناطق تعرضت للقصف بكثافة أكثر من غيرها، كمدينة سراقب التي توقفت فيها الحياة بشكل كامل. ما أدى لنزوح أهلها الى مناطق أكثر أمانا شمال سوريا لعدة أيام…
بالمقابل هناك إصرار لافت يبديه البعض من سكان المنطقة بكل شجاعة غير مستسلمين لليأس والخطر رغم تكرار القصف. محمود من معرة النعمان يعمل على إصلاح باب دكانه لكي يعاود العمل به…
محمود الذي يعمل ميكانيكي سيارات ودراجات نارية يقول: “لا نملك إلا أن نعمل رغم الخوف من القصف. وسنستمر بإذن الله فلا تستطيع أي قوة أن تثنينا عن مواصلة حياتنا…”
من جهته يؤكد أبو رامز الذي لديه شاحنه كبيره لنقل الغاز أنه لا يستطيع الإستغناء عن خدمات محمود في تصليح سيارته حين يصيبها أي عطل. ويشير أبو رامز الى أن مادة الغاز فقدت لفترة ثلاث أيام من السوق بسبب إعاقة القصف للمواصلات بشكل عام.
ولم تنج الزراعة من تأثير الأوضاع المستجدة بسبب كثرة النزوح الذي تسببت به كثافة القصف. الأمر الذي أدى لبقاء بعض الأراضي الزراعية مهملة وبالتالي انعكس ذلك على الناحية الاقتصادية فتسبب بغلاء سعر بعض المنتجات الزراعية وفقدان بعضها الآخر من الاسواق.
أبو جاسر من قرية التح شرق معرة النعمان لم يستسلم للظروف السيئة. فلح أرضه وزرعها ببذار الحنطة بالرغم من وجود القصف. ويوضح أبو جاسر قائلا: “قبل أن نزرع الارض كانت الطائرة قد ألقت قنابل عنقودية فيها. استدعينا فريق الهندسة لتمشيط الارض وأزلنا بقايا القنابل منها ثم قمنا بحراثتها وزراعتها. أثناء بذارنا للأرض أيضا كانت الطائرة تحوم في السماء وتضرب بالرغم من ذلك أكملنا عملنا حيث كان من الضروري أن نستثمرها لأنها مصدر رزقنا الوحيد ” …
الإصرار على العمل شمل العديد من النواحي ومنها ترميم المدارس بعد هدمها. مدرسة قرية حاس رممها اهل البلدة بالتعاون مع من تبقى من كادر إدارتها، وعادت للعمل من جديد. مريم التي تعمل كمدرّسة تقول: “لا يمكن أن تستمر الحياة بدون علم… ولا حياة مع الجهل والأمية ومهما تهدمت مدارسنا سنعيد بناءها من جديد”.