ثورة طفل وطائرُ حُرية

نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

رغم سيطرة النظام على بلدة طيبة الإمام وجوره على أهلها… إلاّ أنَّ ذلك لم يدفع بأبنائها سوى سوى إلى المزيد من الإصرار والقوة… كباراً وصغاراً…

ويوم السبت 13 شباط/فبراير 2016، كنتُ قد عُدتُ لزيارة بلدتي، وأتجوَّل فيها… خرجتُ من منزلي برفقة والدي عند الثالثة والنصف فجراً. كنا نسكن منذُ أربع سنوات، في منطقة تحتاج منا لساعة ونصف كي نصل إلى بلدتنا الطيبة…

وصلنا إلى البلدة عند الخامسة فجراً… كان الغرض من زيارتي، مساعدة أحد أبناء البلدة للخروج منها، أما حجتي لعناصر الجيش، فهي أني أُريد زيارة أختي، التي لم تغادر البلدة رغم كل ما حصلَ فيها.

وبدأت جولتي… عند السادسة، وصلت إلى الحي الذي تسكنُ فيه أختي. شاهدتُ الدمار الذي لحقَ بالحي نتيجة قصف طيران الأسد والطيران الروسي… دمّروا المنازل والمساجد…

رأيت الأطفال يلعبون وكأنهم يطيرون من الفرح في الشارع المُدمَّر دونَ خوفٍ من أيِّ شيء! هؤلاء الأطفال كانوا خمسة، يُشكّلون مجموعة مُتحابّة من بينهم إبن أُختي حسن (12 عاماً) ومحمد الولد المميز (13 عاماً).

كان اللقاء معهم مصحوباً بعاصفة من الدموع… شممتُهم جميعاً وقبلتهم بشدّة، فأنا لم أرهم منذُ أربع سنوات… جيل بكامله يكبر في ظل الحرب…  كنتُ أخاف أن ننسى ملامح بعضنا بعد كل سنوات الفراق!  لكن هيهات، لن ننسى…

عند السابعة صباحاً، جلستُ مع أبي وعائلة أختي وجيرانها، تحت أشعة الشمس المتسللة، وكان صراخ الأطفال ولعبهم يملأ الحي حباً وفرحاً… وكأنّ كل شيء على ما يُرام… وحين بدأنا بتناول الإفطار، سمعنا دوي انفجار ضخم، تلاهُ قصفٌ من الحاجز، ثمَّ إطلاقُ نار…

ناديتُ على الأولاد، خوفاً من القصف… دعوتهم للاختباء. فتبسّموا وقالو لي: “لا تخافي علينا، فنحنُ طيور الجنة”.

بعد ساعتين، كان الطيران قد صعَّد غاراته أكثر فأكثر على البلدة…  حينها بدأ الأهالي بالتوافد إلى القبو المجاور لمنزل أختي… أتوا رجالاً ونساءً وأطفالاً… كان دوي الإنفجارات مرعباً!

انتهت الغارات، لكنّ أم محمد كانت تسأل عن إبنها محمد… الولد المميَّز إبن الـ 13 عاماً.

أينَ هوَ؟

في بادئ الأمر ظنّتْ أنهُ قد هربَ للإختباء في المنزل… ذهبتْ لتتفقّدهُ… لكنها لم تجده.

وبدأنا البحث عن محمد…

إلى أن قال لنا صديقٌ لهُ، أنَّ محمد كان يتحدث عن نيته الذهاب إلى منزل عمه في الحي المجاور، كي يقطف من شجرته البرتقال!

لكنَّ المنزل اختفى جرّاء القصف، واختفت معه شجرة البرتقال التي كانت ستُطعم محمد!

واختفى محمد… نزلت الغارات عليهم…

أُغمي على الوالدة، والوالد غرقَ بالبكاء…

محمد الذي كان يقول لوالده: “سأبقى هنا في بلدتي وإن مت (كان يكرر عبارة رفاقه) سأكون طائراً من طيور الجنة”. ها هم رجال الإنقاذ، يجمعون أشلاءهُ المتطايرة!

جسد محمد دفنوه في ساحة الحي، لأنّ المقبرة مستهدفة من الطائرات الحربية. فحتى الموتى ليس لقبورهم حُرمات!

كان قد حلَّ المساء، ومعهُ ككل ليل، تتفتّح الجروحات… كيف لا وقد استشهد محمد في ذلك اليوم؟

كان علينا الخروج من البلدة أنا ووالدي… لكني طلبتُ منهُ البقاء، كي أبقى لو لليلة واحدة بجانب أم محمد…

وانضممتُ إلى أهالي البلدة، الذين ينزلون إلى القبو في المساء… وجلسنا جميعاً وكانت معنا ذكريات محمد على لسان والديه ورفاقه…

كان محمد يقول أنهُ يخطط لأن يكون قائداً ويحمل السلاح حين يكبر… هكذا أصبح الأطفال، تبدلت أحلامهم… وصارت مرتبطة بالثورة والنضال.

وهذا ما فعلته بهم الحرب، التي تقتلهم وتقتل أحلامهم كيفما كانت! لكنهها لا تقتل الأمل لديهم…

جلسَ إبن أختي حسن ورفاقه، وكنتُ أُراقبهم… كانوا يقولون أنهم سيُحققون ما كان يريد محمد تحقيقهُ… لقد أقسموا على ذلك كأنهم كبار، وبكل صدق…

ثمَّ نام الأطفال عند منتصف الليل، ولم يكن الطيران الحربي قد هدأ!

مضيتُ الليل أُقنع الأهالي الذين بقوا في البلدة أن ينزحوا إلى خارجها، لكنهم رفضوا رفضاً قاطعاً، وقالوا أنّ كل البلدات بخطر…

في صباح اليوم التالي ودّعتهم جميعاً، والقوة في عيونهم، وبشكل خاص، الأطفال…

أطفال بلدتي طيبة الإمام، لا أنساهم. كان نعش محمد على الأرض. هم يلتفون حوله ويُنشدون بصوتٍ واحد: “نحنُ طيور الجنة موعدنا اليوم وغداً… لا تحزني يا بلدي نحنُ طيور الجنة… لا نريد ثراءً ولا مالاً… نريد أن نعيش بسعادة… نحنُ أطفال الحرية ماتت الإنسانية… نحنُ طيور الجنة نادينا للحرية… نريد أن نطير ونرتفع… نحنُ طيور الحرية… طيور الجنة”.

في ذلك اليوم سقطَ طائرٌ كما يسقطُ المئات يومياً… تسقطُ الطيور، لكنّ معنى الحرية يرتفع أكثر في بلدي.

نرجس الحموية (31 عاماً) من ريف حماه. ربة منزل، أرملة ولديها أربعة أولاد. شاركت بدورات نسيج وتمريض في أحد المراكز النسائية في ريف إدلب حيث تسكن حالياً.