رحلة جواز سفر سوري تم الاستغناء عنه

طفلة سورية في احدة مدارس المخيمات، ترسم خريطة سوريا، الوطن الذي تحلم ان تعيش فيه امنة

طفلة سورية في احدة مدارس المخيمات، ترسم خريطة سوريا، الوطن الذي تحلم ان تعيش فيه امنة

"أنا أمام مصيبة كبيرة لو كشفوني وقلت أنني لست صاحبة الجواز حتماً سيأخذونني إلى أقرب فرع أمني. وحينها سأقضي على حياتي وحياة أختي أيضاً"

كنت أهمّ بالذهاب إلى عملي، حين اتصل خطيب اختي الصغيرة من تركيا. طلب منها أن تذهب إلى مدينة حماه لإعداد أوراق جواز سفرها، لتلحق به إلى اسطنبول في إجراء لمّ شمل محتمل.
كان على أختي الصغيرة أن تسرع قدر الإمكان، ولكنها لم تكن تستطيع الحراك. فهي في فراشها بسبب كسر في ساقها. كنت انا قد تسببت به نتيجة خطأ غير مقصود.
طوال الطريق إلى عملي وأنا أفكر بحلّ، وقد تملكني الإحساس بالذنب تجاهها. قررت ألّا افوّت هذه الفرصة عليها. أخبرتها أنني سأذهب عوضاً عنها، والأمر السهل هو وجه الشبه بالشكل بيني وبينها. فقد طال انتظارها لهذه الفرصة.
في البداية حاول الجميع إقناعي بأن أتراجع. لكن أختي الصغيرة كانت تنظر إليّ بصمت. وكأنها تطلب مني الذهاب. أخبرتني الخالة أم محمّد، والدة خطيب أختي، أنها ستسافر معي في سيارة خاصة، دون أن توقفنا حواجز النظام في رحلة الذهاب. أمّا في العودة فعلينا الذهاب إلى موقف السيارات، وبدون سيارة خاصة.
وافقت على ما قالت دون تردد. وفي صباح تشريني انطلقت بنا السيارة. إنها المرة الأولى التي سأزور فيها مدينة حماه. كم تنميت أن أزورها وأتمتع بنواعيرها وعاصيها. وبعد ما يقارب الساعتين وصلنا إلى المدينة. تنفست الصعداء.
استقبلتنا أخت الخالة أم محمد. تناولنا الفطور في منزلها واصطحبتنا إلى دائرة الهجرة والجوازات لإعداد أوراق جواز السفر المستعجل. وبدأت أعدّ الأوراق كأنني أنا فعلا صاحبة جواز السفر. ولم يلتفت أحد إلى الصور الموجودة فالتشابه بالشكل رهيب.
أتممنا الأوراق إلى أن وصلنا للغرفة التي بجب علي أن أبصم فيها. حينها شعرت بالكارثة الكبيرة. خفق قلبي بسرعة جنونية. لم أفكّر للحظة أنني سأبصم عنها. نحن نتشابه كثيراً لكن البصمات مسألة لا تحتمل اللعب. بدأت أرتجف وزادت ضربات قلبي، الموظف ينظر إلي نظرات غريبة.
أنا أمام مصيبة كبيرة لو كشفوني وقلت أنني لست صاحبة الجواز حتماً سيأخذونني إلى أقرب فرع أمني. وحينها سأقضي على حياتي وحياة أختي أيضاً. ولربما تعرّضت الخالة أم محمد للمساءلة أيضاَ. يا الهي ماذا أفعل؟
طلبت الإذن للخروج، فأذن لي. حاولت الخالة أم محمد تهدئتي. وطلبت منّي أن أبصم وأنهي الأمر. لكن خوفي لم يكن ليتوقف. وهمست في أذنها: ربما لا يسمحون لها في المعبر التركي بالمرور إذا ما حاولوا التأكد من بصمتها.
رآنا من بعيد شاب طيب، تقدم نحونا وسألنا إذا كنا نحتاج المساعدة. من لهجته عرفت انه من مدينة إادلب، ولم أتردد، سردت له قصتي. ملامح وجهه تبدلت كثيراَ. قال لي: ستتعرضين للمساءلة وربما للاعتقال وهذا الذي أخشاه. اخذ الأوراق وذهب.
لامتني الخالة أم محمد، فالمأزق صعب. وربما ذهب ليشي بنا. كان شبح الاعتقال يراود مخيلتي حتى عاد بعد قليل وقال: عليكِ إكمال تعبئة الأوراق، والقول انك لا تريدين جواز السفر بشكل مستعجل، حينها والموظف سيؤجل البصمة. وفي الموعد اللاحق تأتي اختك حين تتعافى لتبصم وانتهى الامر. وفعلت كما طلب مني ذاك الشاب، ونجح الأمر.
عدنا إلى البيت دون أن أتكلم كلمة واحدة. أفكر فقط بما سأقوله لأختي ولخطيبها ولأهلي جميعاً. لم استطع الرد على رسائلها ولا مكالماتها. كنت طوال الطريق أتهرب بأي طريقة، كي لا أخبرها أنني خيبت ظنّها، وأنني لن أعود وبرفقتي جواز سفرها كما تتخيل هي الآن.
المسافة الطويلة التي قطعناها من بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي، والمبلغ الذي دفعناه للسيارة الخاصة حتى لا توقفنا حواجز النظام، كل هذه لم تنفعني بشيء، ولن تشفع لي.
في صباح اليوم التالي كنا قد حجزنا إحدى السيارات لكي تنقلنا إلى بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي. لكنها ليست سيارة خاصة. انطلقت بنا السيارة نقطع الحاجز تلو الحاجز، 24 حاجزاً طوال الطريق. عند كل حاجز يدفع السائق ما به النصيب للعساكر الذي لا يترددون في أخذ المبلغ ولو كان زهيداً.
الحاجز الأخير كان غريبا فصفوف السيارات طويلة أمامنا والتفتيش جنوني. وصل دورنا دخل عسكري وبدأ التفتيش في كل مقعد وكأنما يبحث عن شيء محدد. طلب عسكري آخر البطاقات الشخصية، وبدأ بالتدقيق والتحقق من كل راكب وبطاقته الخاصة به.
أنفاسي بالكاد لفظتها عندما صاح باسمي سائلاً: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كان أحد الركاب قد نبهني مسبقاً بأن أقول أنني طالبة في الجامعةـ وأجبت بذلك. قال: عظيم أين بطاقتك الجامعية؟ تمتمت: نسيتها في البيت. هنا أشار إليّ بأن انزل.
بدأت بالصراخ والبكاء وكذلك الخالة أم محمد. وبعد محاورة وجدال كثيرا دام لأكثر من نصف ساعةـ اقتنع أخيراً أن يتركني أعبر هذه المرة بكفالة السائق. وفي حال عدت مرة ثانية ولم أحمل بطاقة جامعية سيعتقلني. ولم أعرف أنه قد قبض لقاء ذلك مبلغ 25 ألف ليرة سورية إلا بعد أن وصلنا بلدتنا وطالبنا السائق بدفع المبلغ.
كنت أشعر أن الله يعاقبني مباشرة على ما اقترفته بحق أختي. فأنا سبب الكسر في ساقها وسبب تعطيل زواجها. شرحت لهم ما حدث والدموع لم تجف من عينيّ. وبعد 15 يوماً ذهبت أختي لتبصم على جواز السفر. راحت بسيارة خاصة ذهاباً وإياباً دون المرور على حواجز النظام.
سافرت أختي إلى تركيا وعبرت الحدود، والمضحك المبكي أنها دخلت بواسطة أحد الأشخاص دون ان تخرج جواز سفرها المشؤوم من حقيبتها. دفعت ألف دولار أميركي لتنتقل إلى اسطمبول حيث كان خطيبها بانتظارها.
تكبدنا كل هذا العذاب والخوف والقلق لإنجاز جواز سفر لم تستعمله أختي، ولم يتم التدقيق في بصماتها. ولا حتى تكلّف أحدهم مشقة التحقق من الصورة أو الإسم.
تقى الجمال (26 عاماً) كانت تعمل مديرة لمركز دعم نفسي للأطفال وتقيم حاليا في بلدة معرة حرمة في ريف ادلب الجنوبي.