حلب سأعود إليكِ …

من حي بستان القصر في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

من حي بستان القصر في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

"كنتُ أطلب من أبي وأمي وإخوتي مسامَحتي على كل ما مضى، وكأنهُ وداع الموت!"

عائشة المعتز

القصف الشرس صارَ جزءاً من تفاصيل حياتنا في مدينتي الغالية حلب، لكنَّ وتيرته كانت قد ارتفعت بعد محاولة النظام إخراج المعارضة منها… حيثُ فرضَ علينا حصاراً خانقاً، لم نعد نجد معهُ أبسط مقومات الحياة.

يوم الأربعاء في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، استيقظنا على صوت افجارات الصواريخ والبراميل من كل الجهات… كانت قوات النظام قد وصلت إلى مشارف حي الشعار حيث نسكن، بعدما تقدّمت في بقية الأحياء…

يومها نزحتُ أنا وعائلتي وخطيبي من منزلنا في حي الشعار إلى حي بستان القصر. وأثناء انتقالنا، كنا نشاهد حجم الدمار الذي حلَّ بالحي وبالمنازل المجاورة لمنزلنا… وحتى منزلنا، كان قد تصدّعَ من جرّاء القصف.

لا أستطيع وصف الشعور الذي انتابني وأنا أُغادر الحي… وأنا أودّع بيتنا الذي قضيت فيه طفولتي. كيف لك بلحظة أن تفقد كلَّ شيء؟!

وصلنا إلى حي بستان القصر، والحزن يقطع قلوبنا والخوف يسكننا. ولم يمضِ أسبوع، حتى علمنا أنّ النظام سيقوم باقتحام حي البستان أيضاً!

إلى أين نذهب؟ قررتْ عائلتي العودة إلى حي الشعار، وقد صار تحت سيطرة النظام… وذلك للإطمئنان على ما تبقّى من منزلنا. كما أنَّ والدي يمتلك مستودعاً للبضائع، فيه تعب عمره! عادَ ليتفقد بضائعه…

أمّا أنا وأخي فلم نرجع مع العائلة، وبقينا في حي بستان القصر. وبقيَ معنا خطيبي. ذلك لأني كنتُ أخشى من اعتقال النظام لي، حيثُ كنتُ من أوائل الملتحقات بالثورة، وقد ضحّيت بدراستي من أجلها.

أمّا أخي وعمره 19 عاماً، كان يخشى من استدعائه للخدمة الإلزامية في جيش النظام… فلم يستطع الخروج. بقينا في حي بستان القصر، والألم يعتصر قلوبنا… فهل نرى باقي أفراد عائلتنا مرة أخرى؟

كنتُ أطلب من أبي وأمي وإخوتي مسامَحتي على كل ما مضى، وكأنهُ وداع الموت!

في حي بستان القصر، بدأت تحدث اتفاقيات لإخلاء المدنيين، وكنتُ أنا وأخي وخطيبي، ننتظر إحدى المعجزات للخروج، ولو أنّ خروج خطيبي أمرٌ صعب! كانَ خروجنا، وإن تَم، سيكون باتجاه ريف حلب الغربي، وهو تحت سيطرة المعارضة. هذا ما يحدث في العادة، يُخلى المدنيون باتجاه مناطق المعارضة، ليُلاحقهم القصف هناك!

في اليوم التالي ونحنُ ننتظر الخروج، استيقظنا على خطرٍ يهدّد حياتنا، حيثُ أنَّ قوات النظام كانت قد التفت على الحي من كل الجهات… فهل نموت قبل الخروج؟

حاولنا الهروب من الحي من مخرج فيه مخاطرة، على وقع أصوات الطائرات… وكنا خائفين من أن تمسك بنا قوات النظام وتعتقلنا…

إلى أن وصلنا إلى حي الزبدية. هناك أقمتُ مع عائلة خطيبي وسط القصف الشديد، بلا ماء وكهرباء وبلا اتصالات ومواصلات. قعدنا هناك ننتظر الموت…

في 13 كانون الأول/ديسمبر 2016، حصلَ اتفاق جديد لإخراج المدنين…يومها، حملنا القليل من أمتعتنا الشخصية التي رمينا منها الكثير كي نخرج نحو المعابر مشياً على الأقدام… فلا يوجد مواصلات.

كانت تلك أيامنا الأخيرة في حلب، وكنا نتأمّل الأبنية التي تمّ استهدافها، والدخان الأسود يملأ سماء حلب… كان بعض الاشخاص قد أحرقوا منازلهم وسياراتهم الشخصية، حتى لا تبقى غنيمةً للشبّيحة (تسمية تطلق على المجموعات المسلحة التابعة للنظام)!

ها هيَ العائلات متوجهةَ نحو المعبر… ها هم الناس يتدافعون للخروج…

تحرّكتْ قافلة مؤلّفة من عشرين حافلة، لتنقل بعضَ المرضى والجرحى من المدنيين… لكنَّ القافلة كانت قد تعرّضت لإطلاقِ نارٍ، ممّا تسبّبَ بإصابة أحد العاملين في الدفاع المدني والسائق.

كما سقطَ في إطلاق النار، عددٌ من الجرحى، وسط معاناة الناس لساعاتٍ طويلة في الزحام والبرد القارس.

ثمَّ قالوا لنا: عودوا فالإتفاق قد خُرق. عدنا إلى حي الزبدية، مع خيبة أمل… مُنهَكين مُتعَبين مُحبَطين…

انتظرنا خمسة أيام، حتى نكرر المحاولة…

وتكرَّرَ ذات المشهد، لكن هذه المرة نجحنا في صعود الباص الأخضر الذي لطالما كرهته!

فالباصات الخضراء، أي باصات النقل العمومي في سوريا، هي وسيلة إخلاء المدنيين…

انتظرنا في الباص، لأكثر من ثماني ساعات… دونَ أن يتحرَّك!

إلى أن خرجنا أخيراً، وكان ذلك في يوم 18 كانون الأول/ديسمبر 2016.

كنا حين نمر في مناطق سيطرة النظام، يصعد إلى الباص عنصرٌ أو ضابط ليفتّشنا… ثمّ كان يصرخ: “مَن يريد البقاء في مناطق سيطرة الجيش أو له أقارب فيها؟”

لا أحد يجيبه… والكل ينظر إليه والدموع تملأ عينيه من الخوف والحسرة على ما حصل… لا نستطيع أن نبقى في مناطقنا التي تصبح تحت سيطرة النظام، ولو كان لنا فيها ألف قريب… فعائلتي في تلك المناطق، ولا أستطيع البقاء.

وصلتُ برفقة أخي وعائلة خطيبي إلى ريف حلب الغربي… على أن يلحق بنا خطيبي في القافلة التالية.

وبقينا نتنقّل بين قرى وبلدات سيطرة المعارضة في الريف، من منزل صديق إلى آخَر… ونحنُ مشرَّدون.

وإلى الآن أسأل: متى أعودُ إلى حلب؟ ما أعرفهُ أني سأعودُ حتماً!

عائشة المعتز (22 عاماٌ) من حلب. كانت طالبة في السنة الثانية في كلية الآداب – قسم اللغة الفرنسية، توقفت عن الدراسة بسبب التحاقها بالثورة. وهي تعمل الآن في منظمات المجتمع المدني.