نزعتُ النقاب كي لا تخاف مني!

وسيلة نقل خاصة تستوعب جميع افراد العائلة بمن فيهم النساء في حي المعادي في حلب- تصوير: صلاح الأشقر

وسيلة نقل خاصة تستوعب جميع افراد العائلة بمن فيهم النساء في حي المعادي في حلب- تصوير: صلاح الأشقر

بعد سيطرة المعارضة على بلدتي طيبة الإمام بجهود الشبّان الثائرين، رحتُ أنا ووالدي لزيارتها بعد غياب ثلاث سنوات. وكان ذلك في صباح يوم الإثنين 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2016. وعندما وصلتُ إلى البلدة أصابتني الدهشة. رأيتُ الخراب والدمار اللاحق بالمنازل والمدارس والممتلكات العامة. وفيما نحنُ نتجوّل، نادى المرصد بوجود طائرات روسية في الأجواء!

 

يا لتلكَ العودة! ركضتُ أنا ووالدي للإختباء في قبو أرضي تحت أحد مساجد البلدة… وعند وصولنا إلى المدخل سمعنا صوتَ طفلةٍ تبكي، وكانت مع والديها وأختها الأكبر. الطفلة في حضن والدتها، تبكي وتقول: “لا أريد أن أموت!”… وكأنها كبيرة وتعرف عن الموت ما يكفي!

 

نزعتُ النقاب عن وجهي، ظننت أنها خافت منهُ! حاولنا تهدئة الطفلة، وقد تعرّفنا على والدَيها، وهما صالح وزوجته. الطفلة تبكي، والأم أيضاً والوالد يُطأطئ رأسه… فيما الأخت الأكبر مصدومة، لا تقولُ شيئاً!

حينها أخبرتني الأم أنها وزوجها بقيا في القرية، لفقر الحال، وهما لا يملكان ثمن الطعام لابنتيهما، فكيف ينزحون إلى خارج القرية؟ تلك العائلة من العوائل التي بقيت مُحاصرة تحت القصف، أفرادها يعانون الخوف والجوع.

 

حين هدأ القصف، خرجنا نحو مكان الإستهداف… وإذ بنا نعلم أنّ الطيران قد استهدف المتحف الذي يتضمّن أجمل قطع الزخارف في العالم، ولوحاتٍ من العصور القديمة. ها هو المتحف  قد أصبح ركاماً بلا فائدة!

أكملنا المسير حتى وصلنا إلى الجامع الكبير في ساحة البلدة… كذلك أصبح ركاماً، فحتى المساجد لا تسلم من حقدهم ونارهم الغادرة!

 

أمضينا وقتاً طويلاً، لم نرَ أحداً على الطرقات، ما عدا شاب مرَّ بنا وأخذنا إلى مكانٍ آخر يقطنُ فيه الناس، وهو عبارة عن قبو. فالتقيت من بين الجمع بإحدى جاراتي، وبكينا سوياً… حزناً على حالنا.

 

عند الظهيرة اشتدّت حدّة القصف على البلدة، لم نتمكّن من الخروج منها، وبالتالي لن تنتهي زيارتنا، سنضطر للمبيت! في التجمُّع، لم يستطيعوا أن يقدّموا لنا سوى الخبز اليابس مع القليل من الأرز والمخللات، لعدم توافرالخبز والمواد الغذائية الأولية، فهم يعيشون الحصار. في المساء، نامَ الأطفال وعيونهم قد أصبحت حمراء، من شدّة البكاء… من الخوف، ومن الجوع، فما أكلوه لا يكفي قطة صغيرة! وصوت الهدم وأصوات الصواريخ الفراغية والعنقودية والبراميل تشقُّ المسامع، من شدة قسوتها.

 

خرج النظام وأعوانه من قريتنا، ولم ينتهوا من قتلنا وهدمنا…أذكرُ عندما كان الشبّيحة في البلدة بعدما بدأت الحرب، كانوا يخطفون أفراداً من أهالي البلدة من أجل الحصول على المال مقابل إطلاقهم. كما كانوا ينتظرون انتهاءنا من جني المحصول، ليُشاركوننا به…

ومحمد العفّان أحد أفراد البلدة، عندما حانَ موعد قطف الفستق الحلبي منعوه من جني المحصول، منعوه من أن يجني تعب العام بأكمله! ما دفعه في اليوم التالي، لأن يشنق نفسه! انتحرَ من شدّة ظلمهم… وها أنا الآن أعلم بأنّ زوجته التي بقيت في القرية، قد قُتِلت جرّاء قصف الطيران الروسي لمنزلها، وهدمه فوق رأسها.

أمضينا ليلة شنيعة… مليئة بأصوات القصف والدمار.

 

في الصباح، خرجَ ماهر ليؤمّن بعض الطعام للأهالي الموجودين في القبو، وعند عودته أُصيب بقصف طائرة على الطريق المؤدي الى بلدتنا.

 

خرجتُ قليلاً، وعادت بي ذاكرتي إلى الوراء، حين كانت بلدتي مليئة بصخب شوارعها ومارتها وصراخ البائعين وأصوات السيارات… الآن خلت من أهلها ومن حكاياتها الجميلة… وبقي الموت والدمار فيها…

حتى محصول الزيتون، بقيَ على الشجر ولم يُقطف… أمّا أنا فلم أزر بيتي، لأنهُ من أول المنازل التي كانت قد دُمّرَت…

 

بلدتي اليوم حزينة وبلونِ نقابي… سوداء…

ذاكَ النقاب الذي نزعتهُ عن وجهي كي لا تبكي الفتاة، ظننتُها خافت منهُ… وهو لا يساوي شيئاً أمام الخوف من العتمة بلا كهرباء، ومن اللاهدوء أمام استمرار القصف، ومن هدم المنازل فوق الرؤوس… وخوفٌ من الموت، إن وصل الجوع حدَّهُ.

 

نرجس الحموية (31 عاماً) من ريف حماه. ربّة منزل، أرملة ولديها أربعة أولاد. شاركت بدورات نسيج وتمريض في أحد المراكز النسائية في ريف إدلب حيث تسكن حالياً.