براميل متفجرة تسقط حاملة قائمة بأسماء الضحايا
ملاحظة: هذه القصة هي شهادة شخصية من المصور الصحفي زيد محمد. بعض المصطلحات المستخدمة قد لا تعبر بالضرورة عن سياسة موقع “دماسكوس بيورو” التحريرية.
زيد محمد
(حلب، سوريا) – اليوم هو الجمعة 31 كانون الثاني/ يناير 2014.
ثلاث حوامات في سماء المدينة، طيران من كل الأنواع: من ميغ إلى سوخوي.
كنت قد قضيت الليلة عند أحد الأصدقاء في مقره العسكري الواقع في حي المشهد، إذ لم أجد بيتاً أستأجره في الفترة الماضية. ذلك الحي متاخم لحيي صلاح الدين وسيف الدولة، الذين يعتبران حيان من الجبهات المشتعلة.
يهتز المقر العسكري. يستغرق الأمر ثوان قبل أن أكون خارج الغرفة، أركض باتجاه المكان المدمر.
لم تعد أيام الجمعة أيام سكينة وزيارات عائلية، فقد تحولت مثل غيرها من الأيام إلى رعب وترقب يومي للموت الذي يفلته الأسد من عقاله على السوريين.
تنزل الدرج وأنت تفكر: لقد كان القصف قريباً جداً، لعله في الحارة التي يقطنها صديقي. أهرع إلى مكان الجريمة لأطمئن عليه، وأدرك أن يوماً حافلاً بالموت بانتظارنا.
الثامنة والنصف صباحاً، لم يصب أحد من الأصدقاء بأذى، تعرض حي المشهد الذي بت فيه لغارتين جويتين. أعود أدراجي، وما هي إلا دقائق حتى ينقض الطيران على الحي مرة أخرى. ويصيب الشارع الذي بت فيه: يتكسر البلور، تتكسر القلوب، تنزف، يهتز كل شيء.
يستمر الطيران الحربي بدك الحي والمدينة لساعات. وتستمر المدينة بالرزوح تحت وابل من الموت يأتيها من فوق الوجوه شاخصة إلى السماء، لا تدري أهي تطلب العون من الله، أم هي تنتظر الموت، أم كلاهما معاً.
يتجمع الناس في الزوايا. كل منهمك بشيء، وكأن الموت حدث جانبي. يتناقش البعض حول الحمولة المتبقية في المروحية، يتناقش آخرون عن وجهة الطائرة التالية، تجد من يشتم الطيار مطالباً إياه بقصفه، آخر يتحدى الطيار ويدعوه إلى النزول على الأرض لو كان رجلاً. تسمع تمتمة من الدعاء، مجموعة تتحدث عن “مؤتمر جنيف” وتشتمه ، ثم تجد من يسخر من الموقف برمته.
لا تدري أي أمنية أو دعاء عليك أن تجهد في القيام به، ألا يصيبك الموت يعني أن يصيب أحداً آخر، هذه هي المعادلة تماماً.
لا تدري أي حالة عليك أن تعيش الآن، الغضب، الحزن، التفكر، الأسى، الرعب، الفرح.
و أنت تمشي على أرض المدينة، تنظر حولك لترى الدخان ينبعث من عدة أماكن، وكأنك في فيلم هوليوودي رخيص.
تدرك بعد قليل أن ما تراه يحدث حقاً: المدينة تحترق.
يحاول الناس أن يبقوا قريبين من الأبنية والمتاجر. يبتعدون عن المساحات الخالية المفتوحة، ظناً منهم أن ذلك أدعى لدفع الموت عنهم.
حالة من التوتر المشوب بالرعب؛ حين يمر الطيران، ينسحب الجميع إلى أول بناء بقربهم، يلملمون أحلامهم وأمانيهم، يدفعون بها إلى أقصى جوفهم، يتلون ما يعرفون من دعاء أو شتائم، يحاولون الحفاظ على أبنائهم، يبكي أطفال ممسكون بتلابيب أمهاتهم، تبكي الأم.
رصاص متقطع يطلقه الثوار على الطيران المروحي، رشقات من رشاشي 14.5 و23 مليمتر. رصاص مقاوم، مشوب بالقهر والعجز والغضب والأسى.
يدعو الناس للرامي بالسداد، لعله يجهز على أداة الجريمة هذه، لعلهم يربحون جولة على المحرقة.
فرحة طفولية هي تلك التي تراود الناس حين يرتفع صهيل الرصاص الموجه نحو الطيران، أو حين يسمعون خبر إسقاط طائرة: ربما يخترعونه، يحلمون بما يأملون، ويُشِيْعون ما يحلمون، لعل الإشاعة تغدو حقيقة، ولعلهم يرفعون معنويات الباقين منهم كي يناموا قريري الأعين في هذه الليلة: نستطيع هزم الطيران. فربما كانت آخر لياليهم.
أخبار الموت تتناقلها الألسن بسرعة غريبة، أي سائق وأي بائع جوال يستطيع أن يعطيك نشرة مفصلة عن جولة الموت.
و تعرف، أن الذي يملك السلاح الأقوى، قادر على قتلك، إنهاكك، إيقاف حياتك المدنية. تغلق المحال التجارية، تغلق المدارس، تختفي السيارات من الشوارع، يختفي الناس.
وتعرف، أن معالم مدينتك لن تعود كما كانت قبل ساعة. إن وجه المدينة يتغير في كل يوم، أحياء بأكملها خلت من السكان، شوارع بأكملها دمرت، يضع الدمار الأسدي بصمته على كل بناء، ويزرع حزناً في كل قلب. تتمدد الخسارة لتشمل الجميع، كل عائلة فيها شهيد ومعتقل ونازح.
بعد كل عملية قصف، تغدو قوارع المشافي مقابر جماعية. تصطف الجثث على الأرصفة لعل أحداً ما يأتي ليتعرف عليها.
أما الجثث المتفحمة والتي تحولت إلى أشلاء صغرى تماماً، فتوضع في أكياس وتدفن. لا أحد يدري كيف سيستنتج أهل الضحية أنه استشهد. مرعبة هذه الفكرة، فأنت لا تخشى الموت، لكنك تخشى أن يظل أحبتك على قيد الأمل بأن تعود إليهم، وأنت تنظر إليهم بحرقة وتتمنى أن تعود إلى الحياة فقط كي تخبرهم بنفسك أنك مت وتطفئ لهيب انتظارهم.
أمرّ مع صديقي بشارع، نجتازه، يغير عليه الطيران الحربي بعد دقائق، أسمع صوت الإغارة وأفكر: لا أريد أن أركض، سيكون الأمر سخيفا لو أنني ركضت ومت. أريد ميتة تحفظ كرامتي، على الأقل أن أموت واقفاً، وأتمنى عدواً يملك من الشرف ما يكفي كي يقاتلني وجهاً لوجه.
يرانا الطيران ويقصفنا، يعطي العالم الضوء الأخضر لطيران الأسد كي يدمر المدينة، ولا أحد يقوم بفعل أي شي، أي شيء، حتى لحفظ ماء الوجه: يا لبؤس هذا العالم، ويا لعاره، ويا لجهله: لن يدمر الحلم.
عند الغروب، قرب دوار “جسر الحج” المليء حتى الثمالة بالقمامة، يتدحرج برميل من مروحية، ترصده بالعين المجردة وهو يعكس ضوء الشمس الباهت. يلتمع البرميل في السماء، تعرف أنه يحمل قائمة بأسماء الشهداء، وأخرى بأسماء الجرحى. تعرف أنه يستهدف الروح والذاكرة.
لا يزعجك كل هذا، وربما لم يعد يؤلمك، إلا أنك ترصد فتاة صغيرة تضحك وسط كل هذا القتل.
يخسر الأحياء شهدائهم، وينتصر الباقون بالأمل.