ناشطة رقاوية تعتصم وحدها أمام مقر “الدولة الإسلامية في العراق والشام”
زينة إرحيّم*
(الرقة، سوريا) – وحيدة تقف سعاد بثبات لساعات أمام مقر “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) في مدينة الرقة مع لافتة كتبت عليها بألوان فاقعة “لا للخطف، لا للاعتقال، لا للسرقة، باسم الدين”.
عدد قليل من المارّة في الشارع المقطوع من طرفيه. يتجنب أحدهم النظر لسعاد وكرتونتها، تشعر بوجوده فتدير لوحتها لتواجهه، يُخفض رأسه معجّلاً الخطوات لتجنب الوقوع في “إثم القراءة”، آخر يافع يملك من الجرأة ما يكفي لأن ينظر للافتة أمام عيون الحرس الثمانية ويكتفي بإشارة “لايك” بإبهامه في العتم.
“هو يومي السادس… لا لا، ربما السابع”؛ تضيع سعاد في عدّ الأيام التي تعتصم فيها وحدها أمام مقر الفصيل العسكري الأقوى في المدينة.
“بدأت بالاعتصام منذ شهدنا حالات خطف النشطاء المدنيين المعروفين بمعارضتهم للنظام يوم 24 تموز/ يوليو ولأن “داعش” هي المتهم الأول قررت أن أعتصم أمام مقرهم”، تقول سعاد التي لم تمانع من ذكر اسمها كاملاً لكن الخوف في عينيّ أختها دفعني لأخفيه.
سعاد مدرّسة لطلاب مرحلة التعليم الأساسي، فُصلت من عملها منذ بداية الثورة قبل عامين بسبب معارضتها العلنية للنظام السوري ولمشاركتها بالمظاهرات المطالبة بإسقاطه.
عن مصدر فكرة الاعتصام وحيدةً أمام مبنى “داعش” تقول سعاد “هي ليست جديدة علي، فقد فعلتها أيام سيطرة النظام على المدينة، وكانت أول لافتة رفعتها آنذاك لا تعتقلوني…اقتلوني قبل قتل أطفال حمص”.
بهذه اللافتة وقفت سعاد قبل عام ونصف وسط شارع “تل أبيض”، وهو سوق مزدحم في مركز المدينة، متحدّيةً الوجود الأمني.
“وجهان لنظام واحد”
قررت سعاد إعادة الكّرة عندما شعرت “أن البلد أصبحت خاضعة لنظام جديد علينا أن نقاومه بالأسلوب نفسه..بدأنا بكرتونة وإليها عائدون” بحسب تعبير سعاد التي تؤكد أن خوفها انتهى مع أول رصاصة أطلقتها قوات الأمن عليهم في المظاهرة قبل أكثر من عام.
في مجموعة الكراتين التي تحتفظ بها بعناية بعد أن تعود من الاعتصامات كتبت “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، “نحن الشعب السوري من أنتم؟” و”شمعة لتنير ظلام سجونكم- الحرية لمخطوفينا” و “بدنا كل المخطوفين”.
استفزّت هذه اللافتة أحد الحرّاس ليصرخ بها “بدك كل المعتقلين؟ كلهم سكرجية ومفاطير (لا يصومون شهر رمضان) وحرامية” وعندما أجابتهم بأنها تريد الأشراف، ردّ الصوت المخفي وراء قناع “لا معتقلين أشراف لدينا”، تروي سعاد مشيرةً إلى أن عمر أكبر العناصر سناً لا يتجاوز السابعة عشرة.
وشهدت محافظة الرقة حالات خطف متزايدة خلال هذا الشهر بدأت بخطف رئيس المجلس المحلي للمحافظة آنذاك عبد الله الخليل، ثم خطف كافة أعضاء المجلس المحلي في بلدة تل أبيض إلى الناشط فراس الحاج صالح والناشط ابراهيم الغازي الذي أطلق حملة “علمنا” لرسم وبخ علم الاستقلال على جدران المدينة بعد التحرير٬ وأخيراً الأب اليسوعي باولو دالوليو وقائد لواء أمناء الرقة أبو طيف.
اعتصاماتٌ عّدة قام بها نشطاء المدينة رداً على عمليات الخطف هذه، كان آخرها الاعتصام للمطالبة بالأب باولو الذي دخل لمقر “داعش” لمقابلة “الأمير” بموعد مسبق يوم الثلاثاء 30 تموز/ يوليو ولم يخرج بعد.
وأصر الأب باولو على مقابلة “أمير داعش” رغم التحذيرات، موصياً كل من التقاهم قبل الموعد أن ينتظروا ثلاثة أيام قبل إعلان خطفه لأنه سيصّر على البقاء حتى تحقيق ما جاء من أجله، ومما كان ينوي الأب باولو مناقشة الأمير بشأنه هو قصة المخطوفين.
الخطف… للنشطاء الفاعلين
“يحذرني الكثير من الأصدقاء أن التعامل مع هؤلاء أصعب من النظام ويحاولون إجباري على العدول عن قراري لكنني عنيدة ومصرّة على التظاهر ليعرف الخاطفون أن الرقة لها أهل وليسوا خائفين منهم” تشير سعاد.
لكن الخوف ملموس بين الأهالي وحتى النشطاء المعارضين للنظام والذين فضّل بعضهم الصمت “لتأجيل المعركة لما بعد إسقاط النظام” وآخرين تركوها للمسلحين فيما بينهم.
سعاد نفسها تسمع يومياً أثناء اعتصامها شكاوى العشرات من مراجعي “داعش”، يسألون عن أولادهم المخطوفين “أنا على بعد متر واحد منهم تمنيّت أن يأتيهم أحد طالباً حلاً لمشكلة أو يشتكي من سرقة!”.
زوجة فراس الحاج صالح المخطوف منذ أسابيع تقول “أنا متأكدة أنهم سيأذونها بالنهاية اذا استمرت بالاعتصام بدليل فراس وأخيه محمد وغيرهم”.
توافقها صديقة سعاد والتي فضلت عدم ذكر اسمها وتقول ” أنا معها لكني خائفة عليها وأعتقد أنها تعرض نفسها للخطر وهم لن يستجيبوا بكل الأحوال” لا تنكر سعاد معرفتها بانهم لن يردّوا عليها، ” كرتونتي لن تغير من أفعالهم، أعرف ذلك لكنني أريد أن أوصل لهم رسالة أن هذه البلد لأهلها وبعدنا طيبين”، بحسب وصفها.
لكن لا يتفق كل أهل الرقة مع ما تفعله سعاد. أحد طلابها والمنضم لـ “داعش” تقدّم إليها في يوم من أيام اعتصامها وسألها “كيف علمتينا الدين والأخلاق وتقفين هكذا؟” فأجابته “لم أعلمكم أن تصبحوا إرهابيين تخطفوا من يخالفكم الرأي”، صوت بلهجة سعودية أمره أن يعود وصرخ بها “روحي من هين لا تضلي واقفة”. ردّت “ليش هاد الشارع لمين؟ ” فأجابها “كان لبشار والآن أصبح لنا”.
لا تسكت سعاد عن ملانستهم لها مستقوية بأنها امرأة. “بالتأكيد لو كنت شاباً لما تمكنت من الاعتصام، كانوا اعتقلوني أول دقيقة”، تقول سعاد، مؤكدةً إنها مستمرة بالاعتصام ما استمرّ الخطف.
تقول صديقتها “فشلنا في منعها من الخروج في عهد النظام، لم تكن تخاف، فكيف الآن؟ حتى أننا جهزّتا ألبوم صور لصفحة الحرية التي ستطالبأ بإطلاق سراحها”.
*زينة إرحيّم صحافية سورية تعمل مستشارة ومدربة مع “معهد صحافة الحرب والسلام”، الذي يدير موقع “دماسكوس بيورو”، وقد نُشر هذا التقرير على مدوّنتها.