التعليم في ريف دمشق: مدارس مدمرة وأهالي يبقون أطفالهم في البيوت خوفاً على سلامتهم
عند حاجز “نهر عيشة”، على مدخل دمشق الجنوبي، يوقظ صوته شرودك، حين يناديك من خلف زجاج الحافلة المنتظرة كمئات السيارات أن تعبر إلى دمشق. ماهر طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره يحمل بعض علب السجائر، ويسألك أن تشتري إحداها. عند سؤاله: “ألا يجب أن تكون في المدرسة؟ أين والدك؟” يشير بإصبعه المتسخة، إلى رجل على الرصيف يبيع القهوة والشاي للسائقين، حيث يعمل طفلان لا يكبران ماهر بكثير على توصيل المشروبات، ويقول “هذان أخواي، تركنا المدرسة منذ أكثر من سنة، بعد أن تهجرنا من البويضة (بلدة في ريف دمشق شهدت معارك عنيفة)”. عشرات الأطفال يستوقفون المارة في أنحاء دمشق، يبيعون الخبز، البسكويت، الدخان، أو القهوة والشاي… معظمهم هُجِّروا من منازلهم، وحرموا من حقوق كثيرة، أحدها حق التعلّم، فالحرب الدائرة في سوريا، اتسعت لتحرق أحلامهم ومستقبلهم.
بحسب وزارة التربية، فإنّ نسبة الطلاب الملتحقين بالفصل الدراسي الأول، للعام 2012/2013 بلغت 74 بالمئة، في وقت تتحدّث إحصائيات اليونيسف عن مليوني طفل ضمن أربعة ملايين متضرر داخل سوريا، إضافة إلى ثمانمئة ألف طفل من مليوني نازح، ونصف مليون طفل لاجؤون في تركيا ولبنان والأردن، علماً أن جميع هذه الأرقام في تزايد، نتيجة تدفق اللاجئين المستمرّ إلى بلدان الجوار. وبالتالي فإنّ عدد الأطفال المتضررين يفوق الثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف طفل، تزداد نسب التسرب بينهم.
“لم يذهب أطفالي إلى المدرسة منذ خرجنا من داريا السنة الماضية” تقول سعاد (43 عاماً)، ربة منزل، وتقيم حاليّاً في صحنايا. وتضيف “غادرنا بيوتنا حاملين أرواحنا. بعد تصاعد الاشتباكات والقصف، اضطررنا للهرب، لم نأخذ أوراق الأولاد الثبوتية المتعلّقة بالمدارس”. ورغم قرار وزير التربية بتسهيل قبول الطلاب، الذين نزحوا من مناطقهم، في المدارس الحكومية دون ثبوتياتهم الرسمية، تشير سعاد إلى “رفض مديري معظم المدارس تسجيل أطفالنا فيها، لعدم وجود أوراق رسمية معهم”. وهي تعتقد أن السبب كونهم من داريّا وهي من أبرز معاقل المعارضة.
سمير (56 عاماً)، معلم في إحدى مدارس صحنايا، يقول: “تعاني المدارس التي لا تزال تعمل من كثافة عددية كبيرة جداً، سواء في عدد الطلاب أو المعلمين والفنيين المنتقلين إليها، بسبب إغلاق مدارسهم، مما يؤثر على العملية التعليمية، كما أنّ المدارس مهدّدة بالإغلاق بين الفينة والأخرى تبعاً للأوضاع الأمنية”.
لم يجد كثير من الأطفال بدّاً من قطع مسافات طويلة، للوصول إلى مدارس جديدة بعد إقفال المدارس في منطقتهم. “أمشي يومياً مسافة لا تقل عن ثلاثة كيلومترات من داخل السبينة (بلدة في ريف دمشق تقع جنوب مدينة الحجر الأسود)، لأصل إلى الطريق الذي أستطيع فيه ركوب سيارة إلى بلدة صحنايا، حيث مدرستي الجديدة. كل مدارس السبينة أُغلقت، وبعضها تلقى قذائف، من الجيشين الحر والنظامي، وبعض مدارس بلدة حجيرة القريبة، أصبحت مراكز للـ”جيش الحر”. لا أريد أن أحرم من الدراسة، وهذه سنة مهمة بالنسبة لي”، يقول أحمد وهو في الرابعة عشر من العمر وطالب في الصف الثالث الإعدادي.
تشير منظمة “اليونيسيف” في تقريرها إلى أن واحدة من كل خمس مدارس في سوريا قد تضررت، فمن بين 22000 مدرسة وصل عدد المدارس المتضررة إلى 2445 مدرسة، نتيجةً للصراع المسلح، كما أن 1899 مدرسة تستخدم كمراكز لإيواء اللاجئين، مما ينعكس سلباً على التعليم ومستقبل أطفال سوريا.
“منعني والداي من الذهاب إلى المدرسة، بعدما سقطت قذيفة قربها، قتلت أخي وبعض الطلاب. من حق أهلنا الخوف علينا، لكن ذلك الخوف سيضيع مستقبلنا”. هكذا تلخّص سناء (12 عاماً) قصتها، وهي اليوم تعين أمّها في التسوّق ورعاية إخوتها الصغار، بعد نزوح عائلتها من السبينة إلى مدينة الكسوة.
جدير بالذكر أن الأضرار لم تقتصر على الطلبة، إذ تشير تقارير صحافية إلى وقوع العديد من المدرسين قتلى أو جرحى.
ومن جهتها وضعت وزارة التربية، بالتنسيق مع “اليونيسيف”، خطة لدعم عودة الطلاب إلى الدراسة، تشمل نحو خمسمائة ألف طفل، بين متسربين وصغار ومراهقين، عن طريق برامج تقوية، ودورات دعم نفسي واجتماعي، عدا عن إنجاز حقائب إلكترونية لمعظم الكتب المدرسية، متاحة على موقع الوزارة الإلكتروني، لتسهيل وصول الطلاب إليها، إضافة إلى صفوف التقوية التي تدعمها “اليونيسيف” والنوادي المدرسية، ويُنتظر أن يستفيد منها حوالي 150 ألف طفل.
لكن لا يبدو أنّ تلك الجهود تجد صدىً إيجابيّاً. ترى شيماء (26عاماً)، وهي معلمة في إحدى مدارس الكسوة، أنّ وزارة التربيّة “منفصلة عن الواقع” في خططها وإجراءاتها، تقول: “حالة الفوضى في البلاد، تنعكس على جميع القطاعات، ووزارة التربية أكثرها انفصالاً عن الواقع. كيف سيصل الطلاب إلى النسخ الإلكترونية، والإنترنت شبه مقطوع، وعند توفّره في مناطق معينة فالخدمة ضعيفة، ويصعب تحميل صفحة فكيف بالكتب؟ وهل… يمتلك أطفالنا أجهزة كمبيوتر؟ كان من الأفضل الاهتمام بتسهيلات أكثر جدوى، تفيد القسم الأكبر من الطلاب وفي جميع المناطق، كالمناهج المطلوبة، ومواعيد الامتحانات، ونوعية الأسئلة فيها، وتقديم اللباس واللوازم المدرسيّة…”
مع استمرار القتال في معظم أنحاء ريف دمشق، يبقى مستقبل آلاف الطلاب معلقاً.
تبرر أم سناء (35 عاماً) عدم سماحها لابنتها بالذهاب إلى المدرسة بالقول “لا أريد خسارة طفلٍ آخر من أولادي، التعليم مهم لكن حياتهم أهم، وهناك أطفال كُثر خُطفوا أثناء ذهابهم للمدرسة، ومنهم من قتلته القذائف كطفلي، كما أنّ حياتنا باتت أكثر صعوبة بعد نزوحنا، ولا أريد أعباءً إضافيّة، بسبب خطورة ذهابهم إلى المدرسة”.
*جميع الأسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها.