حرستا: المدينة التي ضربها كوكب آخر
رزان زيتونة
متاهة الطرقات في الغوطة الشرقية تذكرني بدمشق القديمة. جميع الطرق تؤدي إلى كل مكان فيها، أو هكذا يهيّأ لي.
على امتداد الطرق الفرعية الضيقة التي أصبحت بديلاً حتمياَ عن الطرقات الرئيسية، لا يعرف المرء متى يخرج من بلدة ويدخل أخرى.
لكن شجرات الزيتون الشاحبة تخبرني دائماً أننا على أعتاب حرستا. بعد تجاوز ما تبقّى من الخضرة التي لم تحترق بفعل القصف، تلوح أطراف المدينة التي تبعد نحو خمسة كيلومترات عن مركز العاصمة ويبلغ تعداد سكانها نحو مئة ألف نسمة. أو يصح القول، تعداد سكانها سابقاً، فاليوم، في أواخر شهر نيسان/ أبريل 2013، يكاد لا يكون في المدينة أي ساكن، وذلك ليس مجازاً أو مبالغة.
بعد سيطرة مقاتلي المعارضة على أجزاء واسعة من حرستا، بدأت الحملة العسكرية الأكبر على المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، واستمرت حتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، فرحل معظم المدنيين من أهل حرستا عنها، ولم يتح لهم الرجوع على غرار أهالي مناطق أخرى في ريف دمشق الشرقي، فقد تحولت المدينة إلى خراب معمم تحت وقع ضربات قوات الجيش المتتالية التي لم تتوقف حتى اللحظة.
ساحة الحرية
توقفنا في مكان بدت فيه الأبنية المحيطة وكأنها جرى “تقشيرها” طبقة تلو أخرى: في واجهة أحد المباني تظهر فقط هياكل السلالم الداخلية يعلوها في الطابق الأخير باب وحيد فوق الأدراج المعلقة، وكأنه سقط من السماء. بقية المباني نزعت أحشاؤها وتناثرت بطريقة سريالية فوق الركام وبينه؛ كان من المستحيل التخمين أنّ هذا المكان هو “ساحة الحرية” التي شاركنا فيها بمظاهرة قبل نحو عام، وهو المكان الذي طالما نصبت وسطه إذاعة المظاهرة وتحلّقت حولها هتافات المتظاهرين.
جرائم حرب
في حي السيل، وعلى امتداد شارع كامل، مشهد مذهل من سلسلة أبنية لم يتبقّ منها إلا الأسقف وقد كادت أن تلتصق بالأرض . انزرعت فوق الركام عشرات الصحون اللاقطة التي كانت يوماً ما على ارتفاع عشرات الأمتار. ومما يثير الكثير من السخرية، تظهر في الخلفية على جدار إحدى الشرفات عبارة بالخط العريض، تقول “سوف نبقى هنا”.
لم يبقَ شيء هناك إلا ركام خمسة طوابق من القهر والاجتثاث لأهالي المدينة بأكملهم ، بينما مسلحو المعارضة يحرسون الحطام ويحولون دون سيطرة قوات الجيش على ما تبقّى من المدينة، التي لا تزال بعض أحيائها تشهد معارك طاحنة.
وفقاً للنشطاء، فقد دمرت وحدات الجيش تلك الأبنية عبر تلغيمها، وذلك من أجل كشف الرؤية أمام أفرادها!
الكنيسة الوحيدة في حرستا نجت من الدمار، لكن لحقها التخريب من الداخل. كتبت عبارات التجديف على جدرانها من قبل جنود النظام، وعبث بمحتوياتها وأيقوناتها. أبو نزار، أحد المقاتلين المسؤولين عن المنطقة التي تدخل الكنيسة في نطاقها، قام بإغلاق مستودعاتها باحكام لحمايتها من النهب.
كثير من الحارات فاحت فيها روائح رهيبة، بعضها لجثامين استحال انتشالها من تحت الركام فيما لم يعلم أحد على وجه اليقين مصدر الروائح الاخرى، إن كانت لأجساد بشرية أو حيوانات نفقت في القصف.
لا تزال المعارك مستمرة عند أبواب حرستا، لا سيما حول “إدارة المركبات”، وهو مركز مختص بشؤون الآليات العسكرية الخاصة بالجيش، وهي حالياً الثكنة العسكرية التي تنطلق منها أقسى الضربات لجميع مناطق الغوطة الشرقية.
لكن أهالي المدينة الذين نزحوا عنها، موقنين أن مدينتهم الصغيرة ستبقى تقاوم الموت حتى النهاية. يشعرون بالألم لفقدان الأماكن التي تحملها ذكريات طفولتهم، والأماكن التي شهدت أول مظاهرة وأول هتاف في الثورة، لكنهم عندما يقولون سوف نبقى هنا، رغم النزوح، فهم يعون تماماً ما يقولون.