اليرموك: ما بين القصف والحصار
دخلت مخيم اليرموك عبر مدخل الجسر سيراً على الأقدام. كنت برفقة صحفية سورية شابة وعامل الإغاثة علي الذي حذرني وقال: “إذا لم نتمكن من الخروج قبل حلول الساعة الثانية ظهراً، سنكون هدفا لنيران القناصين المنتشرين عند منافذ المخيم”. يشرح علي الوضع ويقول إنه ليس هناك توقيت محدد يلتزم به القناصون ولكن حتى الثانية ظهراً تكون الحركة في الشوارع لا بأس بها لذلك هناك بعض الأمان بين المارة الكثيرين.
يقع المخيم في الجهة الجنوبية من دمشق داخل حدود العاصمة. يتألف من شارعين رئيسين هما شارع مخيم اليرموك وشارع مخيم فلسطين، يشكلان مركزاً تجارياً وحيوياً للمنطقة الجنوبية. كان هناك حاجزان تابعين للقيادة العامة الفلسطينية بزعامة أحمد جبريل، الأول عند مدخل الجسر، والثاني في شارع نسرين عند جامع البشير. وقد تمكنت من عبور حاجز الجسر دون مواجهة أي صعوبات.
في شارع مخيم اليرموك كانت جميع المحلات مغلقة، والطريق شبه خاوٍ من حركة المارة والسيارات. لفتت انتباهي أكوام القمامة والنفايات المنتشرة على طول الشارع. لم يكن هناك آثار دمار ممكن أن توصف على أنها جسيمة، تضررت بعض الأبنية والمحال التجارية هنا وهناك. ولكن باغتني مشهد الدمار في ساحة الريجي التي تبعد حوالي 600 متر عن مدخل المخيم الرئيسي. وقد سبق وتعرضت الساحة لتفجير من سيارة مفخخة في نهاية كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي. يسيطر على هذه الساحة الآن أفراد من عناصر “لواء الحق” التابعة للـ”الجيش الحر”. أردتُ تصوير آثار الدمار. كنت أرتجف خوفاً من أن أتعرض للقنص، فجزء من ساحة الريجي مكشوف على ساحة البطيخة وبنايات القاعة الذي ينتشر في محيطهم قناصون تابعون للجيش النظامي، أو “العواينية” أي أشخاص تابعون للنظام ولكنهم لا يكشفون عن هويتهم. لكنني تفاجأت بأن أحد أفراد لواء الحق التابع للجيش الحر حاول أن يمنعني من التصوير دون إعطاء تبرير واضح. وعلى الرغم من اقتصار الصور على أبنية مهدمة فقط، أصر هذا العنصر على تفتيش جهازي الخليوي ومسح بعض الصور. فعلى حد قوله هو مسؤول عن تنسيقية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وبإمكاني أخذ الصور من تنسيقيته. فكرت: هل أصبح تصوير آثار الدمار في هذه الساحة حكراً على تنسيقيته؟
حركة التنقل والمواصلات في المخيم شبه معدومة. يخاف سائقو سيارات الأجرة الدخول إلى المنطقة بسبب القصف والاشتباكات وبسبب التفتيش الدقيق على السيارات من قبل الحواجز المنتشرة عند مدخل المخيم. ولكن الأهالي اعتمدوا وسيلة نقل جديدة للتنقل بين أحياء المخيم وهي شاحنات “البيك-أب” الصغيرة من نوع سوزوكي. هناك أشخاص من سكان المخيم يملكون سوزوكي ويتطوعون لنقل الأهالي ومساعدتهم في الحركة والتجول داخل أحياء المخيم. شاهدت شخصاً أعطى إشارة بيده لإحدى هذه السيارات، فتوقفت وصعد فيها.
خلال الساعات القليلة التي تمكنت من قضائها في المخيم، زرت مقر مؤسسة “جفرا” وهي مؤسسة أهلية تعمل في المجال الإغاثي والطبي. قابلت هناك بعض الأهالي ممن أتوا للحصول على مساعدات وحصص غذائية. لاحظت وجود تذمر بين الحاضرين بسبب عدم حصولهم على مساعدات في الوقت المحدد. أسامة الذي رفض ذكر كنيته وهو المشرف الإعلامي بمؤسسة “جفرا” تمكن بطبعه الهادئ من امتصاص غضب الاهالي. هذا الشاب الذي يبلغ من العمر 26 سنة قال إن هناك منظمات توفر لهم المساعدات، ولكن الصعوبة تكمن في إدخال هذه المعونات إلى المخيم المحاصر. وقد حاولت مؤسسة جفرا، حسب قول أسامة، الحصول على موافقة من قبل المؤسسة العامة للّاجئين المعنية بموضوع المخيمات والتابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية، لتسهيل عملية دخول المساعدات عبر الحواجز، ولكن المشكلة ظلت قائمة. واستطرد قائلاً: “يبقى الموضوع رهن مزاجية العناصر الذين يقفون على الحواجز. فقد يرفضون إدخال المساعدات بحجة أنها تذهب للـ”جيش الحر”، رغم أننا نؤكد أن 90 بالمئة من ساكني المخيم هم مدنيون، و”الجيش الحر” يتواجد في نقاط محددة فقط. ولكن يبدو أن الذين يقفون على الحواجز هم آلهة، وليسوا على استعداد لإدخال مساعدات حتى لو بموافقة المؤسسة العامة لللاجئين.”
في مقر مؤسسة “جفرا” بدت الحيرة واضحة على وجوه الأهالي الذين أتوا طلباً للمؤونة. تحدثت مع هبة وهي متزوجة لديها صبيان وبنت تسكن مع ست عائلات في بيت مؤلف من غرفتين وصالون. تقول هبة: “نحن نصبر على ما ألّم بنا، ولكن ما ذنب أطفالنا. لا يوجد خبز ولا كهرباء، ولا تدفئة، ولا مأوى. فبيتي تعرض للقصف في شارع صفد. وإذا فتحت إحدى محلات لبيع الأغذية فلا نستطيع شراء شيء لأننا لا نملك مالاً. مثلاً عندما فتح فرن اليرموك أبوابه أصبح يبيع كيس الخبز السمون بـ 100 ل.س. لو كنا نملك المال لنزحنا ونجينا بأرواحنا، ولكن يبدو أن الموت لا يحوم إلا حول الفقراء أمثالنا.”
أثناء تجولي في شارع مخيم اليرموك استوقفني مشهد “مشفى فايز حلاوة” التابع لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”. المشفى مغلق وزجاجه مكسر. يقول حسان مصطفى الذي يبلغ عمره 28 الذي أتى إلى “جفرا” بقصد المساعدة في العمل الإغاثي إن “مشفى حلاوة” أصيب بقذيفة أدت لتدمير الواجهات الزجاجية كما أصيب “مشفى الباسل” بقذيفتين مما أحدث أعطالاً في الإنارة والمعدات الطبية. ويستطرد مصطفى قائلاً إن “مشفى فلسطين” هو المشفى الوحيد الذي يستقبل المرضى لكنه يعاني من نقص كبير في المواد الطبية: “وعلى الرغم من المساعدات التي تحاول الهيئات الإغاثية المتواجدة في المخيم تقديمها، ولكننا بحاجة إلى مساعدة دولية، وأيضاً إلى رفع الحصار عن المخيم كي نستطيع إدخال المساعدات الطبية، فالوضع يتطور من سيء إلى أسوأ، ونحن لا نملك أي ورقة ضغط على الطرفين سواء “الجيش الحر” أو (الجيش) النظامي، من أجل جعل المناطق المدنية أكثر أماناً.” يطالب مصطفى أيضاً بتسهيل حركة عمال الإغاثة والمسعفين الذين باتوا مستهدفين يومياً.
في السابع من الشهر الجاري استشهد أحمد كوسا وهو أحد عمال الإغاثة في مؤسسة “بصمة” برصاص قناصة عند ساحة الريجي أثناء القيام بواجبه كعامل إغاثي، وهو ليس أول عامل يتم استهدافه. “الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني”، وهي هيئة تتبع حركة الجهاد الإسلامي، فقدت أربعة من عمالها، على الرغم من أنها هيئة مرخصة من قبل الحكومة السورية. واستشهد عامل متطوع في الدفاع المدني لدى مؤسسة “جفرا” برصاص قناصة على رغم أنه كان يرتدي الزي الرسمي لعمال الإغاثة.
صور من داخل المخيم التقطها المراسلة التي أعدت التقرير.