باب الحارة وسورية: الفيزيقا والميتافيزيقا
بقلم: محمد مصطفى الصالح
الفيزيقا: الحارة، حجر وبشر. بيوت الحارة تبدو وقد بُنيتْ كلها بالطين إن نظرت إليها من خارجها؛ جدرانها تتلاصق و تكاد تأكل الشوارع والأزقة خارج أبوابها. أبوابها تفصل بين عالمين؛ خارجي خطوطه متعرجة وفسحاته ضيقة وألوانه باهتة؛ وداخلي منسق وملون ونظيف وموسر وخطوطه مستقيمة مرسومة بأجحار سوداء وبيضاء؛ تتناثر في جنباتها قطع الأثاث الفاخرة وأشجار النارنج والياسمين؛ ويعبق بروائح الطبخات الشهية والحلويات اللذيذة؛ عالم صغير مليء بالحب والجمال والألفة، جنة صغيرة محكمة الإغلاق.
الناس فيها متآلفون متحابون، والعلاقات فيما بينهم دافئة ودية تحكمها أعراف وتقاليد ومبادئ أخلاقية نبيلة توارثوها أباً عن جد، يتمسكون بدينهم ويمارس الرجال والنساء والصغار شعائره باقتناع وطواعية وحماسة وفرح. يُسطرون أفعالهم وعلاقاتهم وأقوالهم بمسطرتي الحرام والعيب المستقيمتين جداً. و”رغم” ذلك يقبلون جيرانهم المختلفين عنهم في الدين ويتعاطفون معهم يتعاونون معهم في شؤون الحارة، تعكس حالة اندماج وتلاحم أزلي، “كـ”أنهم جسد واحد يجاهد للخلاص مما فُرض عليه من قيود تعيق تحرره وانطلاقه.
الرجال فيها رجال. تنضح هيئاتهم بذكورة طافحة، شوارب كثة ونظرات عيون حادة وقامات مستقيمة وأصوات خشنة. يحملون صفات أخلاقية حميدة، فيجمعون بين الحكمة والعفة والقناعة والنزاهة والشجاعة والكرم وحب العمل والولاء للحارة، يثورون عندما تمس مصالح حارتهم أو كرامتها بأدنى ضرر. يحمون أعراضهم ويصونون أعراض الغير. يكدحون لأعالة أسرهم بصبر وتفانٍ. وأيديهم أبداً على الخناجر المزروعة في خصورهم.
والأناث عموماً قانعات راضيات خاضغات، الزوجة لزوجها والأخت لأخيها، قانعات بأدوارهن داخل منازلهن، رجالهن نوافذهن الحصرية تطللن منها على بعض الخارج؛ راضيات عما يقسم لهن القدر، بمعونة ومشورة الذكور، من مصائر؛ خاضعات لما رُسم لهن من خطوط وحدود تتحركن عليها وضمنها. تتعلمن منذ سن مبكرة مهامهن وأدوارهن في الحياة، التي تكاد تصب في واجب واحد وحيد: السهر على خدمة رجالهن ونقل وتكريس ما صنعه واختلقه الرجال من قيم ومعايير إلى صغارهن. كلهن جميلات عفيفات خيِّرات متفهمات.
الصغار والشباب في الحارة يأتمرون بأوامر الكبار ويحترمونهم ويثقون بحكمتهم ودرايتهم وخبرتهم، وغالباً مايكتشفون بعد حين قيمة وصوابية تعليمات كبارهم وبعد نظرهم، إن هم أظهروا في بعض أحايين نادرة شيئاً من نزق الشباب وتمرده. يمتصون من آباءهم أسرار مهنهم، وأصول تدبير الحياة داخل منازلهم وخارجها، ومعايير العيب والحرام، وحب الحارة وأهلها والدفاع عنها وعنهم.
وأهم البشر في الحارة هم عضواتها، وأهم شخصين من العضوات هما الزعيم والعقيد. للزعيم كلمة لا تُرد في كل شؤون الحارة فهو إرادة الحارة وعقلها وقلبها، وهو مشرعها وحامي قيمها وأعراضها وصائن وحدة كلمتها، ومع ذلك يستشير بقية العضوات في الشؤون الأساسية: مساعدة الأرامل والمعوزين وجمع التبرعات ورسم سياسة الحارة تجاه الحارات الأخرى وتجنيد وتموين المتطوين لقتال الإنكليز واليهود في فلسطين ودعم الثائرين على الاستعمار الفرنسي في غوظة الشام. أما العقيد الذراع القوية المنفذة فهو مَنْ يوصل السلاح وينقل الرجال ويتواصل مع بقية الثوار في باقي المدن السورية ويُسير قوافل لا تنقطع من المجاهدين والسلاح إلى فلسطين. أما الشيخ بوجهه الفياض بالسماحة والصدق، فيعمل على تأييد توجهات وقرارات الزعيم والعقيد بآيات القرآن وأحاديث الرسول؛ ولفت أنظار العضوات إلى مواطن فعل الخير.
لا شيء يحدث دون إشراف الزعيم والعقيد وكل شيء يؤجل إلى حين عودتهما إن سافرا في عمل ما. للزعيم والعقيد غيبات عن أنظار الناس، غيبات بسبب قضايا كبيرة وسرية لا يجوز لباقي أهل الحارة، تحديداً النساء، معرفة تفاصيلها خشية وصول أمر تحركاتهم إلى الخونة والدواسيس والعواينية.
هؤلاء السكان الخيرون يأتيهم الشر والخلاف والنزاع من مصدرين فقط؛ فإما النساء، بل بعض النساء، بل امرأة واحدة فقط؛ أو الغرباء القادمين من خارج الحارة، ممِنْ لا يُعرف لهم حسب ونسب واضحين. هؤلاء الغرباء يُخضعون لشك منهجي لتبين من أين أتوا وماذا يعملون وماذا يريدون ومع مَنْ من أهل الحارة يتواصلون، رغم أن أهل الحارة البسطاء هؤلاء اعتادوا مساعدة الغريب والعطف عليه والترحيب به. يتكشف في الكثير من الأحيان أن هؤلاء الغرباء هم عملاء تحرضهم وتحركهم خستهم المتأصلة لاختراق الحارة وفكفكة تلاحمها الداخلي خدمة للحارات الأخرى أو مؤامرات الكومندان الفرنسي. تنصب مؤامرات هؤلاء الدواسيس على تدبير المكائد وزرع الشكوك ونشر الأخبار الكاذبة والمُختلقة والافتراء على الحارة وعضواتها بما ليس فيهم وتلفيق الاتهامات وتنفيذ أو محاولة تدبيرالاغتيالات التي تستهدف الزعيم والعقيد بالدرجة الأولى.
الباب. باب الحارة هو بطل الحارة، البطل الصامت الصامد، الشاهد على الأحداث والوقائع، ضخم وعتيق، شامخ وصبور. باب الحارة يُفتح من الداخل وإلى الداخل، ويفضل أهل الحارة أن يفتح من الداخل وبإرادتهم، تحديداً، بإرادة زعيمهم، الذي يعرف ما لا يعرفه باقي سكان الحارة من شرور يمكن أن تدخل من الباب المفتوح. الباب المغلق هو ما يقي أهل الحارة المخاطر القادمة من خارجها.
ما وراء الباب، خارج الحارة، عالم الحارات الأخرى والاحتلالات العاجزة عن إيجاد موطن قدم داخل الحارة. حين تكون علاقات الحارة مع الحارات الأخرى حسنة، يتزاور أهالي الحارات ويتكاتفون ويتضامنون ويتشاركون في دعم الثوار؛ لكن دسائس الخونة تدمر هذه العلاقات أحياناً فتظهر العصبية الحاراتية هنا وهناك وينقطع الود ويتحول التضامن تنافساً والمشاركة ضغائن ومكائد. الخارج، خارج الحارة، هو الاستعمار الفرنسي أيضاً بشروره ورغبته الآثمة في كسر إرادة أهل الحارة وزعيمها وعقيدها وشل قدرتهم على المقاومة ودعم المجاهدين. وعندما نجح الخارج الاستعماري في وضع أعوانه داخل الحارة لينشروا القلاقل والفتن والموت في بيوتها وأزقتها، واستطاع إزالة الباب من مكانه، حافظ الزعيم على يقظته وتشككه، وببصيرة نافذة رسم خطوط الحذر الحمراء حول هؤلاء الدخلاء، وأقسم أن يُعيد الباب إلى مكانه. وها هي الأيام تكشف بُعد رؤيته وحصافة تدبيره، ويبدأ العواينية والدواسيس في التخبط والسقوط واحداً واحدا، وبقي أن يعود غداً أو بعد غد، في زمن المسلسل.
الميتافيزيقا: سورية، مع تنامي الضغوط الدولية إثر خلع أبواب الحارة الشرقية عنوة من الخارج وتحويل زعيمها إلى طريد شريد ثم شهيد، والخروج القسري لجيشها من الحارة الغربية، ووصول النشاط المعارض فيها إلى مرحلة أولية لابأس بها من الانتظام، وخروج بعض العضوات عن الصف الواحد، بدا ضرورياً النفخ في صورة القلعة المُحاصرة والأعداء الخارجيين القادمين لخلع الأبواب والعواينية المتعاملين معهم. وقع المسلسل في أفق توقعات الخطاب السياسي السائد سلفاً منذ عقود، ولبى توقعات السوري العادي الذي يريد أن يُصدق أن الخارج يتآمر ويريد أن يفتح باب الحارة عنوة. تقبُّل أكثرية السوريين للمسلسل، في أجزائه الأولى على الأقل، يعكس خوف دفين، أغلبه ليس غير مبرر، من عواصف انعدام الأمن وانحلال الدول السائر في المنطقة؛ فصوّتوا لاشعورياً على إغلاق باب الحارة. هذا الباب الذي لم يكن لهم إرادة يوماً في وضعه على باب حارتهم ولا رأي لهم اليوم في فتحه أو إغلاقة، ولا في اختيار الجهة التي يُفتح عليها، ولا اختيار ما يخرج أو يدخل عبره.
زعماء وعقداء سورية يستبطنون روح الحارة ممزوجة بمخلفات القبيلة ولغة ستالين، الخارج عملاء وجواسيس وأموال قذرة وأكاذيب واصطياد للسذج المأخوذين بأفكار الحداثة والحرية والحقوق. أهل الحارة قبل وفوق كل فرد من أفراد الحارة. والحريات والحقوق للشعوب والحارات، وليست للأفراد. حرية وحقوق الغزاويين قبل حرية وحق طل الملوحي في الحصول على فسحة افتراضية تتعاطف فيها مع الغزاويين. لذا باب الحارة باقٍ.
رجال سورية لا يشبهون رجال الحارة إلا في قلقهم الدائم. ونساءها تقفن اليوم، بمعونة المسلسل، على خيط واهن قد ينقطع بهن لتجدن أنفسهن في زمن الحارة تتلصصن من وراء بابها على أحلامهن. وفتياتها تحلمن بمعتز العقيد الشهم الواثق، يُقِّبلهن برقة قبل أن يجرها إلى السرير. وأطفالها يثرون مفرداتهم اليومية بكلمة “حريمة” المستعادة حين يخاطبون أمهاتهم وأخواتهم، و”الشخط عالبلوعة” عند الشجار معهن، ويعزز ذكورتهم وسلوكياتهم الرجولية المبكرة في رفض الجلوس مع الحريمات أو الخرج معهن إلى السوق أو في فرض ارتداء الحجاب والعباءة بحضور أسلافهن.
باب الحارة اليوم مخلوع، في الزمنين، في المسلسل خلعه الفرنسيون، وفي الزمن الميتافيزيقي السوري، وبينما يتزايد عبء الباب على حريات وحقوق وكرامة السوريين، فقد خلعه العضوات من جهات لن يحبذها السوريون لو حصلوا على حرية التعبير والاختيار. جوهر ما تبقى من المسلسل هو الباب: هل يعود إلى موضعه ووظيفته، حسب إرادة الزعيم، أم يبقى الأمر معلقاً، وتبقى الحارة دون باب، أم يكتشف الزعيم، بإلهام ما، أن تغيير جهة الباب وإطلالته، مثلاً، قد يُغنيان عن استعادته في موضعه.