مدينة شهبا الوجهة الأخيرة للنازحين

يوسف كنعان

رغم مضي عام ونصف على غياب إبنه الشاب، ما يزال أبو مرعي يتحدّث عنه إلى زوّاره بحماس. فولده كان من بين أوائل من سقطوا برصاص الأمن السوري في دير الزور شرق سوريا،

لاجئون سوريون قرب الحدود السورية – العراقية – هيومان رايتس واتش

مع بدء المظاهرات في المدينة إثر انطلاق الإحتجاجات في سوريا في آذار/مارس 2011. غير أنّ مأساة عائلته، كمثيلاتها من آلاف الأسر السوريّة، لم تنتهِ مع فقدان أحد الأبناء، حيث كان بانتظارهم موعد مع النزوح ليصبحوا لاجئين داخل الوطن.

المفارقة أنّ كثيراً ممن تركوا مناطقهم هرباً من أعمال العنف اضطرّوا إلى النزوح مجدّداً بحثاً عن ملاذ أكثر أمناً، وهو حال أبي مرعي الذي غادر دير الزور مع عائلته إلى دمشق مطلع العام الحالي إثر تصاعد الاشتباكات بين مقاتلي المعارضة والجيش النظامي. ومع اتّساع رقعة العمليات العسكريّة لتطال أحياءً في دمشق نفسها، حملت العائلة أمتعتها القليلة واتّجهت جنوباً نحو مدينة شهبا في محافظة السويداء قبل نحو شهرين.

“من الغريب أن الإعلام لا يذكر سوى النازحين خارج حدود سوريا وكأنما الكارثة الإنسانية تقتصر على هؤلاء فقط، بينما أعداد النازحين في الداخل السوري تجاوزت المليونين ولا يأتي الإعلام على ذكرهم،” يقول سالم ناصيف، وهو صحفي من شهبا يعمل مع عدد من النشطاء في مجال الإغاثة.

لم يكن من السهل التعامل مع ظاهرة النزوح في السويداء أوّل الأمر بحكم الوضعيّة الخاصّة للمحافظة. فالأغلبيّة الساحقة من السكّان ينتمون إلى الطائفة الدرزيّة، التي كغيرها من الأقلّيات في سوريا، وبالرغم من وجود عدة ناشطين في المعارضة بين أبنائها– معظمهم قدم الغوث إلى أهالي محافظة درعا القريبة والتي كانت مهد الحركة الإحتجاجية – بقيت إلى درجة كبيرة مؤيدة للنظام السوري.

يروي الناشطون كيف أثارت حالة النزوح في البداية القلق في المجتمع المحلي جراء ما يحدث في باقي المحافظات وحملت إليه الإحساس بتهديد أمنه.

“حتى الآن تأخذ علاقات المجتمع مع الضيوف أشكالاً مختلفة منها الرفض التام أو القلق والتخوف لدى البعض، والقبول والتعاطف والتعاون لدى البعض الآخر،” يقول أبو علي (إسم مستعار)، وهو أحد أهالي شهبا.

لكن يبدو أنّ الجانب الإنساني وحسن الضيافة طغيا تدريجيّاً على كلّ ما عداهما، بدليل استمرار احتضان المحافظة لأعداد كبيرة من النازحين.

من مفارقات ما يجري في سوريا اليوم أن يتحوّل من أغاث نازحين إلى نازح يحتاج إلى الغوث. بعض أبناء العاصمة دمشق والذين كان لهم السبق في احتضان من وفد إليها من المحافظات الساخنة، بات يعيش هو الآخر تجربة النزوح بعد ظهور عناصر “الجيش الحر” في عدد من الأحياء السكنيّة واندلاع مواجهات مسلحة فيها.

عبدالله تهدّم بيته في حي الميدان جراء الإشتباكات التي شهدتها الأحياء الجنوبية في دمشق مؤخّراً، ونزح إلى شهبا حيث ساعده أصدقاؤه على تأمين مكان إقامة لعائلته. وهو يرى أنّ الأخطر من ظاهرة النزوح بحد ذاتها هو الفوضى التي آلت إليها الأمور وأدّت إلى نزوحه: “نحن إن كنا قد وقعنا ضحية حرب الجيش الحر مع النظام فالكارثة الكبرى هي في ولادة تشكيلات عسكرية جديدة جراء الفوضى. تلك الأطراف حملت السلاح وضربت باسم الجيش الحر تارة وقوات الأمن تارة أخرى، وهؤلاء… لصوص وقطاع طرق وجدوا في الإنفلات الأمني بيئة خصبة لأعمالهم التي تقوم على السلب والنهب والإختطاف، فعلى من سنحتسب هذه القوة الثالثة ومن الذي سيتمكن من إيقافها ومحاسبتها؟!”

ولا يخفي عبد الله قلقه من أنّ إقامته كنازح قد تطول وهو يحمّل طرفي النزاع المسؤولية.

“بغض النظر من المتسبب في تهجيري من بيتي، أنا في النهاية ضحية جميع الأطراف ففي الحروب الشعوب وحدها من يدفع الثمن.”

يبدو أنّ الشعب السوري يتحمّل وحده ليس ثمن الحرب فقط وإنّما جهود العمل الإغاثي أيضاً. يتحدّث سالم ناصيف عن ذلك بالقول: “لا يغطي الجهد الحكومي 10% من نشاط الإغاثة حيث تم فتح مقرين من قبل الدولة بطاقة استيعابية لا تتجاوز 1500 شخص وضعوا في معسكر الطلائع ومعهد الصم والبكم العائد لمديرية الشؤون الاجتماعية. جهد الهلال الأحمر أقل من المأمول بكثير فهو لم يعر منطقة شهبا والريف عموماً أي اهتمام حتى الآن.”

كما في المحافظات الأخرى، فإنّ واقع التقصير الحكومي في التعامل مع مشكلة النزوح الداخلي في سوريا أكسب جهود الإغاثة في السويداء طابعاً أهليّاً بامتياز، حيث يقوم بالعمل متطوعون شكّلوا فرق إغاثة كل في منطقته. والتبرعات يقدّمها الأهالي بالإضافة إلى الأموال التي يساهم بها بعض المغتربين في الخارج من أبناء المحافظة.

في شهبا مثلاً شكّل عدد من المتطوعين فريق عمل تحت اسم حملة “بيتي أنا بيتك”

“يتميّز هذا الفريق بأنه جمع كافة الفئات المعارضة والموالية والمحايدة أيضاً؛ جمعهم واجب الضيافة والنداء الوطني وشكلوا لجانهم المختلفة والمنفتحة والمتعاونة مع كافة الفرق الأخرى في المحافظة وتحاول التنسيق معها لضبط العمل،” يقول سالم.

غير أنّ هناك خشية من نضوب الإعانات المادّية والعينية، خصوصاً مع غلاء الأسعار الذي ساهم في زيادته إغلاق طريق درعا التجاري والمخاطر على طريق السويداء – دمشق، ما يرتّب أعباءً إضافيّة على نشطاء الإغاثة.

وبحسب العاملين في الإغاثة يوجد في السويداء أكثر من عشرة آلاف نازح قدموا من مدن سورية عدّة، وتوزّعوا على مختلف قرى ومناطق المحافظة، هذا الرقم لايشمل الأسر الميسورة التي استأجرت بيوتاً وتتدبّر أمورها بنفسها، ويُعتقد أن أعدادها تفوق ذلك بأضعاف. لكن في كل الأحوال لا تزال عمليات الإحصاء غير دقيقة ويصعب الوصول إلى نتائج حقيقية جراء انتشار النازحين على كافة المناطق وضعف التنسيق الحقيقي على الأرض بين فرق الإغاثة المختلفة.

يعمل النشطاء على تأمين السكن للنازحين، إضافة إلى توزيع سلل غذائية وحليب وفوَط الأطفال وتقديم الرعاية الصحية وتأمين بعض الأدوية. مع ذلك يشكو النازحون من عدم ملائمة المساكن (يضم معظمها خمسة عشر شخصاً)، إضافة إلى صعوبة المتابعة الطبّية وتوفير بعض الأدوية بصورة مستمرّة للمرضى المصابين بأمراض مزمنة.

وقد حل بدء العام الدراسي استمرار أزمة النازحين الذين يسكن الكثير منهم في المدارس، في حين أعلنت وكالة  “يونيسف” أنّ “أكثر من ألفي مدرسة في سوريا تعرّضت للتدمير الكامل أو الجزئي” وأن المنظمة “ستحتاج إلى 40 مليون دولار للمساعدة في إعادة أطفال سوريا المتضررين إلى الدراسة،” مما يثير التساؤلات حول مصير الأطفال البعيدين عن مدارسهم بسبب النزوح.

رغم هذا الواقع المرير ثمّة دوماً فسحة للأمل عند أبي مرعي، وبخبرة سنواته الستين يلخّص رحلته من دير الزور شرقاً إلى السويداء جنوباً مروراً بالعاصمة دمشق: “نحن السوريون لم نعرف بعضنا سابقاً، والآن الثورة جمعتنا رغم أنف النظام. وربما هي حكمة الله التي جعلت السويداء تبقى آمنة كي تكون ملاذاً آمناً من الموت لهذا كان دورها عظيماً ولا يقل أهمية عن دور من يقوم بالتظاهر أو يحارب قوات النظام, وبهذا تكون الثورة  متكاملة لهذا سننتصر حتماً.”